ربما لم يشأ للتركيبة الطائفية «القحة» لمجلس النواب، لولا حمامة سلام تائهة بين محيطي شهيق وزفير لاهب، أن تتجانس أو تتمفصل وطنيا حول عدد من القضايا والأسئلة الكبرى التي يترقبها الناخبون من نوابهم وممثليهم في الغرفة الثانية من المجلس، وإن تم سابقا التعويل على تآلف هذه التركيبة وطنيا في سياق قضايا وأولويات تتعلق بالوضع المعيشي وتحسين الخدمات المقدمة إلى الشعب وغيرها دون «الأجندة» و»الاستراتيجيات» الأخرى!
ولكن هذه التركيبة الكيمياوية المفرقعة طائفيا «فرقعت» هول المفاجآت التي لم تخطر على بال أي أحد كان يتوقع أن يتم السماح لهذه التركيبة الخطيرة أن تستحيل سلسبيلا وطنيا في كأس من الكؤوس، بل إن أحد الزملاء والأصدقاء ذهب ممازحا إلى احتمال أن تكون هنالك كتلة «اللكزس» وكتلة «البي إم دبليو» وكتلة «المرسيدس» قبل أن تكون هناك كتل تتوحد في إطار وطني جامع حول عدد من القضايا الكبرى والملفات الرئيسية التي ترنو إليها الأبصار المعذبة!
هذه المرة توحدت المواقف وانصهرت العناصر المتفجرة، وتناغمت جميع الأصوات سنة وشيعة ولحى وعمائم تحت لواء ما يشبه «الوصاية» على الذوق العام وعلى حرية الإبداع من خلال تشكيل لجنة تحقيق بمهرجان ربيع الثقافة، وسواء أكانت ذلك الحس المشترك بالوصاية وليدا لصدفية وإكزيما باطرياركية متأصلة في خلايا تيارات «الإسلام السياسي» مهما اختلفت الدرجات والنوعيات كما ذهب بعض الصحافة إلى ذلك بضراوة، أو كان ذلك الموقف نتاجا لصدمة عارضة ذات شحنة عالية، فإن ما يقلق البعض في الأعلى لن يكون الأسباب وإنما النتائج طالما كان هنالك غلط وطني ينبغي تصحيحه طائفيا وفئويا عسى أن لا تنكسر الوتيرة التفتيتية الرتيبة!
ولكن من المقلق أن مثل هذا الانشغال النيابي البارز بموضوع وحدث عارض بالنسبة لصلاحيات واختصاصات ومنطلقات الوجود البرلماني «التشريعي» كمهرجان ربيع الثقافة الذي حقق حتى الآن نجاحا ملفتا ونال إجماعا إعلاميا وشعبيا قل نظيره بين سائر الفعاليات الأخرى، أو ربما على سبيل تخصيص فعالية أوبريت «مجنون ليلى» والمبدعان الكبيران قاسم حداد ومارسيل خليفة، قد يدفع حتما إلى تصنيف تلك الانشغالات والاشتغالات المتوحدة والطارئة رغم زحمة طوابير سائر الملفات والقضايا الفائقة في أهميتها وإلحاحها، سيدفع إلى اعتبار تلك المواقف الحادة أنها مصنفة ضمن دوائر «الاسترجال السياسي النيابي» المعتادة، والتي تطرقنا إليها في مقال سابق واستشهدنا بأمثلة «البويات» و»الشذوذ الجنسي» و»البناتية» وغيرها، والتي غالباَ ما تتشبث بشوارد صحفية عن قضايا مثيرة للاختلاف والجدل اللامنتهي وغير القابل للفكاك، والتي تأتي من بينها مسألة تحديد «الذوق العام» وترسيم الحدود بين الابداع والانخلاع، والتمييز ما بين ما ابتدع لكونه فن لأجل الفن وما اتبع على أنه تحدي للقيم والأخلاقيات السامية!
لو انتبه النواب الأفاضل إلى قرائن هذه المسألة ومن فوق رؤوسهم ملفات وطوابير القضايا والملفات الرئيسية التي نالوا بفضل إلحاحها شرعية التمثيل النيابي، فهل كانوا أصلا ليرضوا على تضييع ساعة واحدة في تصغير حجم أدوارهم رغم صغر حجم سلطاتهم وصلاحياتهم «التشريعية» أصلا إلى ما دون السلق أو التقشير؟!
هل لهم أن يرضوا بأن يصغر حجم هذا المجلس الذي عول عليه الشعب كثيرا في حل أموره وتيسير قضاياه الدنيوية أصلا حتى يصبح في حجم هيئة موحدة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أبسط أشكاله البدائية؟!
أمام تلك الوحدة الوصائية الفريدة والانشغالة الحثيثة لا اعتقد كما قد لا يعتقد معي آخرون بأن الدستور أصلا تم تعديله بل وحتى تبديله أكثر من اللازم إلى حد استلزم وضعه في غطائه مرة أخرى للاسترخاء، كما لا أتوقع أن مستويات الحريات قد ارتفعت حتى خرمت سقف تطلعاتنا الشعبية فبات من الضرورة الواقعية أن يتم كسر ضلع من أضلاعها لترشيد نموها وارتفاعها!
كما لا أظن بأن وعاء اجتماعنا وقالب عمراننا البشري، أو بالأحرى ما ندعوه مجتمعنا قد ترهل بالمواطنة حد الحاجة إلى بعض تمارين الاستحماء الطائفية والشقلبات الفئوية لتعيد له شيئا من المرونة والحيوية والنشاط الاجتماعي!
ولا أتصور ويقفز بي الخيال في يوم من الأيام في أن يبيض الدجاج ذهبا وهو الرابض في قرى الإهمال والنسيان وبين رفوف أمعاء وأكباد مدن يفتتها الفقر ورذائله، فيما يحفز النواب على تأجيل وتعطيل مرور سير القضايا والملفات الكبرى التي لا تحتمل الانتظار لأربع سنين أخرى فتفجع بأن هذا البرلمان كسابقه «ما سوا شي»!
ولكن في الوقت ذاته أؤمن واحترم تنوع وتعددية الأذواق من تعددية الوسائط الاجتماعية والثقافية والقنوات القيمية المختلفة مهما تراوحت بين الدرجة والصنف، والتي يستعصي أن يتم تلبيتها واسترضائها جميعا في وقت واحد، كما أنني أقدر حال من يشعر أنه قد أصيب بصدمة ثقافية وخدش قيمي، ومثلما أستنكر واستقبح أن يمارس أصحاب أي ذوق وخيار وخلفية نوعية محددة آلياتهم وسلطاتهم مهما تواضعت لتعميم الوصاية على جميع الأذواق والخيارات بدعوة حفظ الذوق العام ونجدة القيم ونصرة العقيدة الموحدة!
فإنني وعلى المنوال ذاته أرفض بعض الحملات الإعلامية المغالى فيها والتي قد تحمل طابعا وسمة انتهازية متصيدة وترمي إلى تسييق بعض التيارات والنواب المنتمون إليها ضمن فصيلة خفافيش الظلام وسلالات مصاصي الدماء الحضارية وقاطعي الرؤوس ومهندسي إمارة الرب، وغيرها من شرارات الصدام المبالغ فيه!
فلا أتوقع أن الحل والعلاج مع وصاية المحافظين وأهل اليمين والقائمين على أمر الدين على سائر الأذواق يكون باجتراح وبتصميم وصاية أخرى ذات سمت وسحنة ليبرالية وحداثية وعلمانية على أذواق المحافظين وغيرهم، فلا نخرج أبدا من إسار الوصايات المتبادلة، وإنما الحل يكمن في الاحترام والاعتراف المتبادل وفي تحقيق شيء من التوازن!
كما أنني أرى بأنه وفي الوقت الذي تغدق الدول والحواضر المجاورة على مهرجانات ثقافية وترفيهية متنوعة الملايين وحتى المليارات بهدف إنجاحها وتحقيق أهدافها الاتصالية الحضارية وأبعادها التنموية المترامية ينبغي من زاوية الاحترام الواجب من نوابنا الأفاضل أن يكون لهم صوتهم المسموع في الإشادة والتقدير بهذا المهرجان الثقافي الكبير بفعالياته المتكاملة التي تمايزت نوعيا في الجودة والمستوى عن مهرجانات أخرى انطلقت منذ زمن في المنطقة، فالاختلاف بشأن فعالية من الفعاليات لا يعني بالضرورة نسف سائر الربيع الثقافي الزاهي، وتخريب وروده وحرق أشجاره والتقليل من شأن إبداعاته الحضارية الراقية التي أتت من جهات جغرافية متنوعة!
أو بتساؤل أرق لحنا «هل من المعقول والمنطقي والمقبول أن يتم اختزال كل هذا الربيع في زهرة أو ورقة واحدة يتم المطالبة بقطفها؟!».
«هل تقتضي دعوات الانفتاح والتنوع والحوار الثقافي الإيجابي أن تتم ممارسة وصاية محلية وتدخل في التحفة الفنية والثقافية المبدعة للآخر الذي قد يكون مبدعا؟!»
قد لا يبدو لدي هذا التصرف الانتقائي الواضح من قبل النواب مبررا ومنطقيا على حساب السلطات والصلاحيات والأولويات الرئيسية المرتقبة شعبيا، طالما لم يشهد أي من نواب التحقيق حتى فعالية واحدة من فعاليات الربيع بنفسه؟!
كما لا تبدو لي بعض الدعوات النيابية صريحة وصادقة حول تهديد «ربيع الثقافة» للأخلاقيات والقيم العربية والإسلامية الأصيلة للمجتمع البحريني بعدما شهدنا موجا وتيارا مضطربا من الازدواجيات القيمية والأخلاقية الصاعقة في الربيع الانتخابي لبعض نواب الأمس واليوم، والذين ربما أراد بعضهم أن يتم تصفية الأمر مع هذا الربيع الثقافي الجميل بأسرع وقت ممكن عسى أن يحكي لناخبيه عن قصة تحول منطقة مهملة مثلا كــ «قلالي» إلى أمستردام بفضل طرد «ربيع الثقافة»، كما استجاب الرب من قبل لنداء المتظاهرين ضد «برنامج الأخ الأكبر» فارتفعت أسعار النفط!
ولا أدري حتى هذا الوقت علام يتهم الربيع الثقافي إجمالا أو عموم الثقافة بتخريب القيم وإفساد الأخلاق؟!
فأنا لا أعتقد بأن «ربيع الثقافة» قد قدم «رشاوى» أو «صدقات» لجماهيره الغفيرة لينتخبوه الأفضل بين سائر المهرجانات والفعاليات الأخرى؟!
كما أن «ربيع الثقافة» لم يمنح ويبتز الناس بــ «خيشة عيش» أو»وعدا بالجنة» و»رزمة أنواط» ليشكروا له ويحمدوه؟!
أو أن «ربيع الثقافة» وعد جمهوره بسداد فواتيرهم للكهرباء إذا ما اختال باسما؟!
أو أقدم «ربيع الثقافة» على سرقة انطباعاتهم وهواجسهم وإبهارهم ويضعه في صدر أعمال ومنجزاته؟!
إلا أن تكون أحكاما مسبقة ممن لا يقيم للثقافة وزنا طالما لم يجدها قابلة لأن تكون مشوية أو مسلوقة أو مقلية، ولا تصلح لأن تكون سلما لتسلق أكتاف القيم والوعي الشعبي، وهذه المصيبة الأعظم!
فهل أتاك حينها حديث كتاب صحفيون وقد وصلوا بفضلها نوابا وقطعوا بنزق حبالهم معها؟!
من الضروري أن يأخذ النواب في محاذيرهم خطورة أن تساق فصولهم التشريعية على ذات الدرب التي سيقت من خلاله فصول من سبقوهم، فيتحقق حينها الخوف والخطر الأكبر فيكفر الشعب بالتجربة الإصلاحية، حينما يكونوا نوابه ضد السياسية والاقتصاد والثقافة!
فلن يتذكر الناخبين في أقرب ربيع انتخابي قادم بأن المشكلة كانت في يوم ما مع مجنون ليلى، ولكنهم حتما سيتذكرون بأنها تتعلق بمجنون الكرسي!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1658 - الأربعاء 21 مارس 2007م الموافق 02 ربيع الاول 1428هـ