مثل كثير من أبناء البحرين، تعرفت على العراق عبر بوابة الحزن والمأساة منذ كنت صغيرا أخطو أولى خطواتي في عالم الحس والإدراك، فالعراق كان في مخيلتي ذلك البلد الذي اغتيل فيه الإمام علي بن أبي طالب (ع ) أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في صدر الإسلام في 19 من رمضان العام 41 هجرية على يد المجرم عبدالرحمن بن ملجم المرادي، والعراق كان ولايزال يمثل في ذاكرتي ذلك المشهد التراجيدي لملحمة كربلاء التي قتل فيها الإمام الحسين (ع) على يد جيش يزيد بن معاوية بقيادة المجرم عمر بن سعد وبتنفيذ من المجرم شمر بن ذي الجوشن في العاشر من محرم العام 61 هجرية.
لقد كانت تلك هي الصورة التي تشبعنا بها وحفظناها عن ظهر قلب لكثرة ما استمعنا إليها ونحن نجلس إلى جوار المنبر الحسيني على مدى أعوام من المشاركة في مواسم عاشوراء، ومع ذلك التكرار كنا دائما نتفاعل مع ما يصوره خطيب المنبر الذي كان ينجح في معظم الأحيان إلى تهييج عواطفنا ويجري دموع عيوننا بكاء وحزنا على ما لحق بالعترة الطاهرة من قتل وسبي وما حل عليهم من ظلم وعدوان على أيدي الجيش الأموي.
وكبرنا وكبرت التراجيديا في وجداننا، لم تتغير العواطف ولم تزل القدم عن الطريق باتجاه الحسينيات والمآتم كل ما هلّ هلال المحرم سنويا، لكن سنوات حكم الطاغية صدام حسين الذي جثم على صدر العراقيين بشكل مباشر منذ يوليو/ تموز 1979 وحتى أبريل/ نيسان 2003 كانت تضاعف من المأساة وتضخم المشهد أمامنا، فلقد عمد ذلك النظام إلى الإساءة إلى زوار أهل البيت ومنع إقامة العزاء ومراسيم الزيارة في فترات عدة، بل وصل الأمر به إلى حد اغتيال الكثير من علماء الدين أو فرض الإقامة الجبرية عليهم، ما زاد من ألمنا وحسرتنا.
ثم جاءت السنوات العجاف حين أدخل صدام المنطقة في أتون الصراع والحروب المدمرة عندما شن هجومه الظالم على الجارة المسلمة المسالمة إيران الإسلامية، فأصبح اقتصادنا يعيش حالة حرب لم نكن طرفا مباشرا فيها، لكن المنطقة كلها أجبرت على المشاركة في دفع فاتورة الحرب التي جاءت مطلبا أميركيا وحاجة إسرائيلية في المقام الأول، ومرة أخرى ازداد التضييق على العراقيين وتواصلت محنتهم.
ولم تكد حرب الخليج الأولى تضع أوزارها، حتى نجح صدام في جر المنطقة إلى حرب ثانية عندما احتل دولة الكويت الشقيقة، فكان ذلك إيذانا بعصر الاحتلال الأميركي المباشر للمنطقة، ويبدو أن أميركا لم تستطع أن تجد لها موطئ قدم مقنع طوال الحرب الأولى، لذلك كانت الحرب الثانية ضرورية، وهكذا أرسلت القوات العراقية في الثاني من أغسطس/ آب 1990 إلى الكويت ليتم تدميرها والإجهاز عليها حتى لا تكون رصيدا يمكن أن يهدد أمن «إسرائيل» في المستقبل.
وعندما أنجزت المهمة وعادت بعض القوات العراقية إلى العراق خالية الوفاض، شنت عليها القوات الأميركية هجوما شنيعا وصل إلى حد الإبادة، فلقد كانت مجزرة طريق البصرة البشعة التي اغتيل فيها عدد كبير من أفراد القوات العراقية العائدة للوطن علامة بارزة على أن العملية لم تكن بقصد تحرير الكويت فقط، بل إن الهدف الرئيسي كان تدمير الجيش ومن ورائه الشعب والوطن العراقي.
ولكي تكتمل الصورة البشعة للدور الأميركي فقد سمح للطاغية صدام حسين أن يشن حملة إبادة شاملة ضد كل من له علاقة بالانتفاضة الشعبانية التي قام بها العراقيون في المحافظات الجنوبية من البلاد تزامنا مع حرب تحرير الكويت، إذ أعطت القوات الأميركية الضوء الأخضر لصدام للقضاء عليها بكل وحشية ودموية، وكان التبرير هو منع الشيعة من إقامة دولة موالية لإيران، وهكذا لم يكن هناك من يدفع الثمن سوى الشعب العراقي ليستمر المسلسل المأسوي الطويل.
ثم أدخل الشعب العراقي (باستثناء مناطق الأكراد في الشمال) تحت مظلة الحصار الدولي الظالم أكثر من عشر سنوات، قمع واضطهاد في الداخل، وتجويع وحصار من الخارج، حيث عانى أبناء العراق من قلة الدواء وشح مصادر الغذاء والمنع من السفر والعزل عن التواصل مع أي مكان في العالم الخارجي، إلا من خلال برامج الأمم المتحدة والمفتشين الدوليين، وخلال هذه الأعوام قضى عدد كبير من أطفال العراق نحبهم من الجوع والمرض أمام مرأى ومسمع من كل دول العالم بما في ذلك الدول العربية والإسلامية من دون أن يرف لأي زعيم أو مسئول عربي أو مسلم طرف عين أو جفن أو يهتز له شعر بدن؟.
والغريب أن الأمم المتحدة التي فرضت الحصار الظالم على الشعب العراقي صادرت حقه في ثرواته الطبيعية، من خلال فرض تطبيق برنامج النفط مقابل الغذاء بموجب القرارات الدولية، وهكذا كثر السماسرة واللصوص الذين اغتنوا من وراء تجويع الشعب العراقي، لكن نظام الحكم الطاغي في العراق كان يتنعم من عوائد النفط ولا ينفق تلك الأموال إلا على المقربين والمريدين، وهكذا فإن استمرار الحصار لم يكن يعني سوى المزيد من الإذلال والمهانة لأبناء الشعب العراقي، أما الطبقة الحاكمة فقد كانت تعيش في نعيم وأمان ورغد العيش!.
لقد شهدت هذه السنوات أكبر هجرة للعراقيين الذين كانوا يدفعون كل ما يملكون من أجل الهروب من جحيم القمع والحصار والجوع، لكن برنامج الأميركان لتفتيت العراق وإخضاعه إلى السيطرة المباشرة، وإن لزم الأمر تقسيمه إلى دويلات وكانتونات طائفية لم يكن قد اكتمل بعد، وهكذا تم وضع العراق مرة أخرى في دائرة الاستهداف الأميركي، بحجة إيوائه الإرهابيين وامتلاكه الأسلحة البيولوجية والكيماوية وربما البرامج النووية التي يمكن أن يهدد بها جيرانه، الذين لم يكونوا في حقيقة الأمر سوى جار واحد دللته أميركا وحمته من كل الأخطار المحتملة، هذا الجار لم يكن سوى «إسرائيل».
وهكذا اندفعت القوات الأميركية تحاصر العراق من كل جانب، برا وبحرا وجوا، وأغلقت كل الحدود، وبدأت القوات المحمولة وحاملات الطائرات والصواريخ العابرة للقارات في الاقتراب من الهدف، وعندما اكتملت الحشود في القواعد الأميركية المحيطة بالعراق من كل جانب، أطلق الرئيس الأرعن جورج دبيلو بوش طلقة بداية الحرب آملا أن تكون رصاصة الرحمة التي تغتال الوطن وتشرد الشعب العراقي إلى الأبد.
لكن العراق صمد، ولم ولن تتمكن الإدارة الأميركية من شطبه من معادلة الصراع، وحتى إن بدت الصورة، وكأنه ذاهب إلى حرب أهلية طائفية، فالثقة في أبناء الشعب العراقي وحكمتهم كبيرة، ولاسيما مع وجود شخصيات نزيهة ونظيفة وذات بعد نظر وبصيرة كآية الله العظمى الإمام السيدعلي السيستاني، لذلك فإننا نتطلع إلى عودة العراق إلى الصف العربي الإسلامي أكثر صلابة وأقوى عودا مهما طال ليل الاحتلال.
إن لنا وطيد الثقة في أن هذا الكابوس الذي جثم على صدر الشعب العراقي، وشرد الكثير من أبنائه في مختلف أصقاع الأرض، هذا الكابوس سيزول حتما، وسيعود أبناء الشعب العراقي إلى وطنهم مهما طالت بهم أيام الغربة والشتات.
وهنا تحضرني كلمات نشيدة عراقية ثورية، تقول: «أعود وكيف لا أعود، لابد أن أعود، أعود بالطيارة محلقا أعود، وكيف لا أعود... لابد أن أعود، إن أسقطوا الطيارة أركب في السيارة ومسرعا أعود، وكيف لا أعود... لابد أن أعود، إن دمروا السيارة فإن لي رجلين وراكضا أعود، وكيف لا أعود... لابد أن أعود، إن كسروا الرجلين فإن لي يدين مجدفا أعود، وكيف لا أعود... لابد أن أعود، إن قطعوا اليدين فإن لي صدرا وزاحفا أعود، وكيف لا أعود... لابد أن أعود، إن هشموا الصدرا فإن لي عينان تحدقان في الحدود في الحدود، إذ بهما أعود، وكيف لا أعود... لابد أن أعود...».
وبغض النظر عمن أطلق هذا النشيد ومن أنشده، فإنه يعبر بصدق عن تصميم كل العراقيين على العودة إلى وطنهم والمشاركة في إعادة بنائه وتعميره، بعد أن يتخلص العراق العظيم من براثن الاحتلال الأميركي وأحقاد الإرهابيين المجرمين الذين يقتلون أبناء العراق ويرعبونهم كل يوم...
هذا ما أكده لي صديقي عمار الذي هرب من العراق إلى لبنان سيرا على الأقدام، والذي سأروي لكم قصته في مقال آخر.
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1657 - الثلثاء 20 مارس 2007م الموافق 01 ربيع الاول 1428هـ