العدد 1656 - الإثنين 19 مارس 2007م الموافق 29 صفر 1428هـ

احتضار المصطلح في السياسة العربية

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

أبكر آثام المثقف العربي، عمله في السياسة تبريرا لغير المبرر، فهو يتوسل الوصول إلى السلطة بما أوتي من قدرة كلامية ومصطلحية ومعلوماتية، تضلل العامة وتسيّرهم خلفه، ومتى حصل على السلطة أو جزءٍ منها عصف بما كان ينادي به، والمصطلحات التي تُرفع في الفضاء السياسي العربي كثيرة، تارة هي وطنية وهي أضعف الإيمان، وتارة أخرى - وذلك أنكى - يتوسل السياسي بالمصطلحات الدينية.

تصريح منشور في زاوية قد لا يلحظها كثيرون لحسن الترابي هذا الأسبوع، معترفا بما سماه «ارتداد المشروع الإسلامي» في السودان فلم «نكن مؤهلين للسلطة العام 1989» كما قال «وخصوصا أننا قفزنا للسلطة من دون وعي أو تجربة أو برنامج»! وأكمل حديثه: «أفسدتنا السلطة، وأصبح الأمين عندنا لصا بعد وصوله إلى السلطة»!

التصريح طويل وموثق، وقد لا يعني للكثيرين شيئا جديدا من الترابي أو من أمثاله الذين خلطوا السياسية بما يعتقدون بأنه تدين، فلما فشلوا في السياسة لاموا الدين! فجاءت النكبة على الاثنين، على السياسة لفرط آثامهم فيها من دون نتائج إيجابية للناس، وعلى الدين لأنهم أثموا فيه أيضا وحمّلوه مصالحهم الشخصية، واستدعوا الشعور الديني الذي هو ملك عام للناس أجمعين، لصالح المشروع السياسي الخاص بهم.

ليست حركة حسن الترابي - التي هيأت لوصول السودان إلى ما وصل إليه من تفتيت واضطراب وحروب أهلية - هي المعنية بهذا الكلام. المعني في حقيقة الأمر يتجاوز حركة الترابي ليصل إلى كل هذا الخلط الشديد في فضائنا العربي بين «التدين والسياسة». وهو خلط فيه من التناقض ما لا يخفى على الفطن من الناس وفيه من الانتهاز ما لا يُستر، فلا عصمة لشخص، فقيم الدين مثالية ومطلقة وهي قيم روحية وأخلاقية بالغة الثراء وعامة لمن تقيد بها، ولا يجوز لأحد أن «يختطفها» ويختص بها نفسه وحزبه ويُخرج الآخرين من إطارها.

يضطر السياسي في السياسة إلى أن يكذب، سواءٌ أكان ذلك بوعي أم بغير وعي، ويضطر إلى أن يعد ولا يفي. وهو إن توسل الدين وطرقه لجلب المنفعة السياسية إليه أو إلى مناصريه، يكون قد ارتكب خطأين أساء إلى السياسية كما أساء إلى الدين نفسه.

والسياسي كالبشر معرض للخطأ كما هو معرض للصواب، فإن ربط بين أفعاله وتعاليم الدين - أي دين - يكون قد أساء إلى ذلك الدين إساءة بالغة. لذلك، إن أصواتٍ كثيرة ترتفع اليوم بين أولئك الذين توسلوا الدين في حياتهم في مرحلة سابقة طريقا للنجاح السياسي. ترتفع أصواتهم لمراجعة ذلك المنحى الخطر الذي يعرّض الثوابت لدى البعض للاهتزاز جراء ما يشاهدونه من أفعال تتناقض مع الأعمال، تظهر وإن خفيت لفترة زمنية قصيرة.

في حديث الترابي منحى آخر، وهو فساد الكوادر التي اعتقد بأنها «مخلصة». «لقد «أفسدتهم السلطة» كما قال، وهو وغيره يعرف أن السلطة مفسدة، وأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ذلك ليس بالجديد، وخصوصا إن كانت السلطة تعتمد في إطلاقها على تحريم النقاش في الأمور العامة على أساس أن هناك نصوصا تحكمها لا يستطيع بشر أن يناقشها، وهي نصوص يكيفها أهل السلطة المتسترون بالدين كما يشاءون خدمة لمصالحهم الضيقة... واللافت أن بعض القوى التي تتوسل «الدين» تختلف فيما بينها في السياسة كل الاختلاف على رغم الادعاء أن لها مرجِعية واحدة، ومن دون وعي منها تتناقض في المشهد السياسي الواحد وتحترب بين بعضها.

هناك في السودان، حزبان على الأقل مستندان إلى المرجِعية الدينية، وفي غيرها من البلاد العربية تجد أكثر من تجمع سياسي و «تكتل» برلماني يدين في العلن بالمرجِعية نفسها، ويصارع الآخر في السياسة!

النقاش في هذا الأمر لا يخص الموضوع السوداني، وإن كان هو الموضوع الذي يُعد أكثر تعبيرا عن المأزق. هو يخص العدد الوافر من الأحزاب والتيارات التي تتستر في السياسة بستار الدين، كما أنه لا يخص عصرنا فقد خاضت شعوب قبلنا هذا المنحى ووصلت إلى توافق بعد الكثير من العناء على أن السياسة هي تدبير أحوال الناس، تصح مرات ولا تصح مرات أخرى، وهي اجتهاد إنساني بحت له علاقة بالمصالح المرسلة ويتغير بحسب تغير الأزمان. تلك خلاصة ما توصلت إليه ثقافات أخرى، وهو خلاصة إنسانية.

استدعاء الدين في السياسة خطاب ليس خاصا بالإسلام، فقد استدعته الكثير من الأديان والطوائف، الصغيرة والكبيرة على مر العصور، بل منذ الخلاف الفلسفي في أثينا القديمة؛ تحقيقا لمصالح ضيقة للبعض، وهو إحدى مناطق الجدل العميق اليوم في العالم.

إلا أنه في السياسة العربية «خلل مستوطن» إن صح التعبير، أصبحت له مدة طويلة من الزمن من دون أن يُحسم لصالح المواطنة والتحديث، فقد تم اصطياد المصطلحات الدينية عندما توجه البعض إلى فرض ما سُمِّي في فترة الاشتراكية العربية، فسعى البعض إلى تأصيل «الروح الاشتراكية» وإرجاعها إلى الدين، ثم صار الاتجاه إلى قوى السوق الاقتصادية وحرية التداول والملكية، فذهب البعض يفتش عن نصوص لتصل هذا المنحى السياسي الاقتصادي بالدين أيضا. وهكذا نجد الاستخدام السياسي المؤقت من البعض اعتمادا على روح ثابتة لدى الناس؛ لكونهم مؤمنين حقيقيين. السياسة هي التصالح على قيم الحكم في المجتمع، التي تحوى من بين أمور أخرى المساواة بين المواطنين، وتطبيق القانون بعدالة ورحمة؛ حفاظا على التوازن الاجتماعي الذي يراعي الحدود ويحفظ الحقوق. وإلا لما التجأ كثيرون إلى وضع الدساتير وفصل السلطات وإقامة الرقابة الشعبية، والحث على حرية القول والنقد، وكلها تفترض أن القائمين على السياسة بشرٌ يخطئون ويصيبون، وأن تصويب أعمالهم خاصٌ بالناس في هذه الدنيا.

صيحة الترابي - الذي يتبرّأ منه اليوم كثيرون - لا تُعفي من النظر إلى التجربة في الكثير من الأماكن على أنها تجربة إن تجاوزت إسعاد البشر في الدنيا، فلن ترقى إلى إسعادهم الروحي.

كل ذلك يعود بنا إلى القول: إن المصطلح في السياسة العربية مريضٌ ويكاد يحتضر، وإن له الوقت من أجل أن يصحح بشجاعة.

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1656 - الإثنين 19 مارس 2007م الموافق 29 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً