ماذا تقصد إذاعة الجيش الإسرائيلي من وراء تسريب خبر رسالة سرية زعمت أن الرئيس الفرنسي بعث بها إلى حكومة تل أبيب حثها فيها على شن هجوم ضد سورية بدلا من حزب الله ولبنان.
الخبر يقول إن شيراك اقترح في «رسالته السرية» التي وصلت إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية خلال فترة الحرب أن يغزو الجيش الإسرائيلي دمشق ويسقط نظام الرئيس بشار الأسد لقاء دعم فرنسي كامل للعدوان. وتضيف «الرسالة السرية» أن شيراك طلب من «إسرائيل» عدم المس بلبنان باعتبار أن «المشكلة الحقيقية هي سورية» فهي كما تزعم الرسالة المسئولة عن الحرب وهي التي دفعت حزب الله على معاودة نشاطه العسكري.
الرسالة إذا واضحة في توجهاتها وهي تنص على نقاط محددة: لبنان غير مسئول عن الحرب وحزب الله أيضا. سورية تتحمل المسئولية، ولذلك يجب معاقبتها مباشرة وفرنسا مستعدة لدعم العدوان بالكامل في حال اتجهت تل أبيب نحو دمشق لا بيروت.
هناك أسئلة كثيرة يمكن إثارتها عن «الرسالة السرية» المزعومة منها: أولا، هل هي صحيحة أم كاذبة؟ ثانيا، إذا كانت صادقة لماذا تعمدت إذاعة الجيش الإسرائيلي تسريبها الآن؟ ثالثا، ماذا كان جواب حكومة إيهود أولمرت ولماذا لم تأخذ بها؟ الأسئلة تفتح الباب على ردود كثيرة. فالرسالة قد تكون صحيحة وقد تكون كاذبة والجواب الأخير يعود إلى الرئاسة الفرنسية التي تملك حق النفي أو التأكيد أو التوضيح. وبغض النظر عن صدق «الرسالة السرية» يبقى السؤال لماذا قررت حكومة تل أبيب تسريبها الآن ولماذا لم تنتظر نهاية عهد شيراك الذي اقترب موعده؟
هناك احتمالات كثيرة منها أن تل أبيب تريد إحراج شيراك داخليا في فترة تشهد فيها فرنسا معركة انتخابية حامية على وراثة الكرسي الرئاسي. وربما تريد إحراج شيراك عربيا في وقت تستعد الدول العربية إلى عقد قمة حاسمة في الرياض، يحتل الملف اللبناني قائمة الأولويات في جدول أعمالها. فالملف اللبناني بعد العدوان الإسرائيلي تصدر لائحة الخلافات العربية والإقليمية وأدى إلى زعزعة الثقة بين سورية والسعودية. وربما أرادت تل أبيب إحراج القوى اللبنانية المتعاطفة مع سياسة شيراك الدولية وتوجيه رسالة فيها الكثير من الإشارات والتنبيهات.
من تلك الإشارات والتنبيهات هي تحميل دمشق مسئولية الحرب باستخدام رسالة مزعومة بعث بها شيراك إلى الخارجية الإسرائيلية. فهل تريد تل أبيب القول إنه كان بإمكانها الاستفادة من الغطاء الفرنسي (والدولي)، ولكنها أبت أن تستغل الأمر واكتفت بالانتقام من لبنان وحزب الله؟ أم أنها تريد القول إنه كان بإمكانها توسيع دائرة العدوان، ولكنها ترددت حتى لا تستدرج المنطقة إلى مواجهة كبرى يعرف كيف تبدأ ولا يعرف كيف تنتهي وأين؟ فهل ما فعلته تل أبيب وبناء على زعم «الرسالة السرية» كرم أخلاق أم نتاج حسابات سياسية أخرى تصب في استراتيجية أميركية أوسع؟ بغض النظر عن المعاني والالغاز فإن تل أبيب في تسريبها للرسالة المزعومة وفي هذا التوقيت بالذات أرادت أن تضرب أكثر من هدف منها بعث إنذار مبطن لدمشق بعدم تكرار المحاولة في اعتبار أن حكومة أولمرت على دراية بالأمر وتعلم مصدر الأسلحة، ولكنها قررت الاكتفاء بهذا القدر من العدوان وعدم توسيع دائرته.
يبقى السؤال: لماذا لم تتجاوب تل أبيب مع اقتراحات شيراك المزعومة في رسالته السرية؟ يمكن البحث عن الأجوبة من خلال قراءة تلك الاعترافات التي أدلى بها أولمرت للجنة الإسرائيلية التي تحقق في التقصير والفشل والعثرات التي أصابت الحكومة في فترة العدوان.
أولمرت قال الكثير، ولكن أهم ما ذكره يمكن تركيزه في نقطتين: الأولى أن خطة العدوان وضعت قبل أربعة أشهر وأن تل أبيب تذرعت بالعملية العسكرية على الحدود وخطف الجنديين لتنفيذها. والثانية أن السياسة الأميركية أربكت الحكومة الإسرائيلية حين أعطت إشارات متضاربة ما انعكس سلبا على أداء رئاسة الأركان ووزارة الدفاع والقوات البرية التي تخوض المواجهة ميدانيا.
الحرب أميركية الصنع
كلام أولمرت يكشف معلومات تؤكد الكثير من التحليلات فهو يشير بوضوح إلى أن الحرب أميركية الصنع في جوهرها وتل أبيب قامت بتنفيذها بناء على تنسيق أو أوامر مباشرة من واشنطن. والكلام أيضا يشير من دون تردد إلى أن سيناريو الحرب كان على جدول أعمال الحكومة وهو مبرمج ومخطط له وينتظر الذريعة لإطلاقه ميدانيا.
أولمرت في اعترافاته يوضح الكثير من النقاط التي تزعم الإذاعة الإسرائيلية أنها وردت في رسالة شيراك السرية. فعدم تجاوب تل أبيب مع اقتراحات شيراك المزعومة ليست «كرم أخلاق» من أولمرت وإنما سببه وجود ممانعة أميركية ترفض توسيع دائرة الحرب حتى لا تتورط المنطقة في مواجهة كبيرة وغير محسوبة. فإذا كانت أميركا هي من اتخذ قرار العدوان وان «إسرائيل» كانت تنفذ أوامر إدارة جورج بوش فمعنى ذلك أن واشنطن قررت الاكتفاء بتحطيم لبنان في وقت كانت تدعي أنها تحب هذا «البلد الصغير» وتراهن عليه وتشجعه على «الديمقراطية»؟
المسألة الثانية أن قرار الحرب اتخذ وفق سيناريو مرسوم سابقا. وهذا السيناريو وضع بالتفاهم مع الولايات المتحدة وخطط له ضمن سياقات مدروسة تعمدت عدم توسيع الدائرة وضبط العدوان ضمن أراضي الجمهورية اللبنانية. مثلا الغارات الجوية التي نفذها سلاح الطيران الإسرائيلي وصلت إلى أقصى الشمال وأقصى الشرق ووجهت ضربات مباشرة على الحد الفاصل بين سورية ولبنان ولم تتجاوز مرة واحدة تلك الحدود.
رسالة شيراك السرية واعترافات أولمرت العلنية تكشفان بوضوح مجموعة نقاط تحتاج إلى مزيد من القراءة والبحث والتفكير الطويل والعميق. فالمعلومات تشير إلى وجود خلافات بين التوجهين الأميركي والفرنسي، إذ إن واشنطن تريد تحييد سورية وإبعادها عن الحرب بينما باريس تريد تجنيب لبنان دفع كلفة الحرب ونقلها إلى مكان آخر. كذلك تشير إلى أن الولايات المتحدة قررت بيع لبنان في المزاد الاقليمي حين وافقت أو أعطت الأوامر لتل أبيب بتنفيذ السيناريو المرسوم قبل أشهر وتطبيقه كما هو من دون إضافات وزيادات أو توسيع لدائرة العدوان.
المسألة إذا مبرمجة ومدبرة سلفا. أميركا تريد تدمير لبنان وشطبه من المعادلة العربية لحسابات استراتيجية كبرى تتصل بتلك التجاذبات الإقليمية الممتدة من العراق إلى فلسطين. وفرنسا لا تريد ذلك وتميل إلى المحافظة على وحدته وتماسكه وعدم التفريط به وتحويله إلى ساحة مفتوحة ومكشوفة.
بحسب رسالة شيراك المزعومة أن فرنسا طلبت من تل أبيب تحييد لبنان ونقل معركتها إلى سورية. ولكن حكومة أولمرت رفضت التجاوب مع الاقتراحات واكتفت بالسيناريو الموضوع سلفا بالتفاهم مع الولايات المتحدة فأقدمت على تحطيم لبنان الذي يتغزل بوش به يوميا.
ماذا نفهم من الكلام؟ قرار الحرب على لبنان اتخذته أميركا ونفذته تل أبيب. كذلك قرار عدم توسيع الحرب اتخذته واشنطن وانصاعت له حكومة أولمرت. وهذا يعني أن الكلام المعسول الذي تردده الولايات المتحدة بشأن لبنان مجرد أكاذيب تخدم سياسة أخرى تنتظر رحيل شيراك عن الرئاسة للبدء في إعلانها أو تنفيذها.
كشف فحوى الرسالة السرية المزعومة يصب في هذا الاتجاه. فهي سواء كانت كاذبة أم صادقة فإنها تلقي الضوء على الكثير من خفايا العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان وأبعاد تلك الحرب التقويضية التي لم تنته فصولها وتنتظر إشارات أميركية لاستكمال ما تبقى من أهدافها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1656 - الإثنين 19 مارس 2007م الموافق 29 صفر 1428هـ