أحد التحديات التي تواجه المختصين في مجال المياه هي كيفية إيصال المعلومات العلمية ووجهات نظرهم المستندة على بيانات ومعلومات علمية إلى صنّاع القرار ودعوتهم لاتخاذ قرارات وإجراءات يمكنها أن تساهم في الحفاظ على استدامة هذه الموارد الحيوية، وكذلك إيصال هذه المعلومات إلى العامّة لرفع وعي المجتمع بأهمية الموارد المائية وحثهم على تعديل سلوكهم في التعامل معها والمساهمة في الحفاظ عليها.
في الكثير من المؤتمرات العلمية المتعلقة بالمياه في دول مجلس التعاون الخليجي يتم إطلاق الكثير من التعليقات، الساخرة نوعا ما، من قبل المتخصصين بشأن ضرورة رفع الوعي بالنسبة للمسئولين عن المياه والتركيز عليهم أولا قبل العامة، بهدف تعريفهم بالمشكلة المائية الحادة التي تعاني منها دول المجلس وإنعكاس سياساتهم بعدم اتخاذ الإجراءات المطلوبة على الوضع المائي، هذا إذا ما أريد حقا حل المشكلة المائية في دول المنطقة. وبرغم من عدم موضوعية هذه التعليقات أحيانا، إلا أنها تعكس حالة الإحباط التي يمر بها المتخصصين في المياه في عدم قدرتهم على إيصال وجهات نظرهم العلمية وانخفاض فعاليتهم في المساهمة في حل المشكلة المائية في دول المجلس، كما تبين هذه التعليقات الفجوة الكبيرة الحالية بين المسئولين عن المياه في دول المجلس وبين المتخصصين في المياه في الجامعات ومراكز البحوث في هذه الدول.
وبقدر هذه السخرية المؤلمة، تطلق التعليقات من الجانب الآخر، أي من جانب المسئولين عن المياه، بأن معظم المختصين في المياه هم أكاديميون، وبأنهم، من وجهة نظر المسئولين، يقومون بالدراسات النظرية ولايستطيعون طرح حلول عملية مفيدة لهم لحل المشكلات التي يواجهونها في مجال إدارة المياه. وبرغم من هذا التعريف لكلمة أكاديمي هو تشويه مجحف لها، إذ أن كلمة أكاديمي تمثل الشخص الذي يتبع المنهج العلمي في حل المشكلات، بدءا من تحليل المشكلة من خلال المشاهدات والقياسات والتعرف إلى أسبابها الحقيقية وآثارها، إلى وضع الحلول المناسبة لحلها بفعالية، إلا أن وجهة النظر هذه تمثل الواقع الراهن، وتدل على أزمة ثقة بين الطرفين، الباحث والمسئول في مجال المياه.
حاليا تفتقر دول مجلس التعاون بشكل عام إلى ربط البحث العلمي بتخطيط وإدارة الموارد المائية، وتعاني من انخفاض دور الدراسات المائية العلمية في عملية التخطيط الاستراتيجي لقطاع المياه. وبرغم وجود الكثير من الجامعات ومراكز البحوث في دول المجلس التي تضم باحثين متخصصين في مجال الموارد المائية وإدارتها ممن يمكن الاستعانة بهم في المساهمة في إجراء هذه الدراسات للمساعدة في حل مشكلة المياه في دول المنطقة، إلا أن العلاقة بين المسئولين عن المياه والباحثين المتخصصين في هذا المجال تبدو وكأنها شبه مفقودة، ويشوبها نوع من عدم الثقة المتبادلة، وفي بعض الأحيان شيء من الاعتداد بالنفس والتعالي!
ولذا فنحن أمام «أزمة ثقة» بين المسئول والباحث في مجال المياه في المجتمع الخليجي، ومن المؤكد أنها لم تصل إلى هذه المرحلة من لا شيء، وإنما عبر الكثير من التجارب المتراكمة المخيبة للآمال للطرفين التي لا يسع المجال لطرحها هنا. إلا أن هذه القضية، من وجهة نظر الكثيرين من المراقبين والمثقفين، لها بعد أعمق من قطاع المياه، وتتعلق بالمجتمع ككل، وتستوجب الوقوف عندها.
... كنا ثلاثة متخصصين في البيئة والمياه والتنمية نجلس كل يوم تقريبا في فترة الغداء في الجامعة «ندردش» في الكثير من القضايا المجتمعية، كاتب المقال أصغرهم وأقلهم علما، بينما يمتلك الآخران كما هائلا من الخبرات ووضوح في الرؤى مما يجعل كل جلسة بمثابة متعة فكرية. وكثيرا ما تنتهي المناقشات بشأن الموضوعات والقضايا المجتمعية إلى المعوقات التي يعاني منها المجتمع الخليجي والعربي في دربه نحو التطور والتقدم. ومن أكثر المعوقات التي كانت تتكرر بإلحاح في هذه الجلسات هي في كيفية تحويل المجتمعات العربية إلى مجتمعات علمية تؤمن بالمنهج والبحث العلمي في حل مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المتزايدة في ظل التطورات والتعقيدات المتسارعة التي تمر بها المجتمعات في هذه الدول وكذلك العالم من حولها.
إذا نحن أمام مشكلة مجتمعية عامة، ليست محصورة في قطاع المياه. ومن المثير للأسف أنه لا توجد بارقة أمل تبين بان هناك تحركا جادا نحو حل هذه المشكلة في معظم دول المجلس، باستثناء دولة قطر التي قامت مؤخرا بوضع التعليم والبحث العلمي وتنمية المجتمع على قمّة أولوياتها، وضخت استثمارات هائلة ووضعت خططا استراتيجية بعيدة المدى لتحقيق نقلة نوعية في رأس المال البشري لديها، وتحويل «الموارد الطبيعية» التي تمتلكها إلى «موارد بشرية»، وخصصت ما يعادل %2.8 من الناتج المحلي الإجمالي لتمويل البحث العلمي لحل المشكلات التي تواجه المجتمع القطري وتشجيع حركته فيه.
يقول ستيفن روز، الذي يعمل في الجامعة المفتوحة في بريطانيا ويُعدّ من أشهر المتخصصين في مجال نقل العلوم إلى المجتمع «إن المنادين بقضية فهم المجتمع للعلم وتحوله في هذا الاتجاه ما زالوا يغفلون بأن هناك حاجة لـفهم العالِم (بكسر اللام) للمجتمع». بمعنى آخر، أن المسئولية قد تقع بالدرجة الأولى على العلماء والمتخصصين للعمل على إيجاد الوسائل اللازمة لإيصال المفاهيم العلمية المعقدة في تخصصهم ووجهات نظرهم العلمية إلى المجتمع بما فيهم صنّاع السياسات ومتخذو القرار، بدلا من إلقاء اللوم على المجتمع، والمسئولين والعامة على حد سواء، في عدم فهمهم أو عدم تبني وإتباع الحلول العلمية التي يطرحونها لحل المشكلات التي تواجهها مجتمعاتهم.
لقد تعود المتخصصون في مجال المياه أن يتخاطبوا بلغة علمية معقدة لا يفهمها في أغلب الأحيان سواهم، كما درج بعضهم عند الكتابة في وسائل الإعلام المختلفة أو التحدّث إليها على استخدام لغة معارضة انتقادية حادة للوضع القائم، وفي أغلب الأحيان من دون إعطاء أية حلول تتجاوز تشخيص المشكلة (وهو أمر يبدع فيه العرب على جميع المستويات!)، ما يضع المسئولين عن المياه في وضع لا يحسدون عليه، ويؤدي إلى إقامة حاجز بينهم وبين هؤلاء المتخصصين. ولذا، فهناك مسئولية ملقاة على عاتق المختصين لبذل الجهد في توصيل هذه المعلومات أو المفاهيم العلمية إلى المسئولين عن المياه، وكذلك صنّاع السياسات ومتخذي القرار في السلطة التشريعية (ومعظمهم غير متخصص في المياه)، بطريقة نقدية بناءة مبسطة يسهل فهمها ويمكن تقبلها، بدلا من انتقاد الوضع ووصف المسئولين بعدم الكفاءة، مساهمة منهم في تجسير الهوة الحالية وبناء الثقة المطلوبة لزيادة التعاون بين الطرفين. ففي نهاية الأمر، كلا الطرفين يهدف، لنفترض بإخلاص، إلى حل المشكلة التي تواجه المجتمع.
بالإضافة إلى ذلك، على المختصين أن يبينوا للمسئول قدرة البحث العلمي في المساعدة في حل المشكلات التي تواجهه، وإعطاءه، بدلا من حل تقني واحد (إما هذا أو لا)، عددا من خيارات الحلول التي تراعي الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية وحتى الأمنية، ونسبة الكلفة/المخاطر إلى العائد من كل من هذه الخيارات، وهذا ما يهم المسئول بشكل رئيسي في عملية اتخاذ القرار.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1654 - السبت 17 مارس 2007م الموافق 27 صفر 1428هـ