بين الطرقات المحرقية الضيقة البائسة وجدران البيوت الصخرية والطينية المتهالكة في شدة اقترابها تطوف السيارة طوفا وئيدا ومحاذرا خشية أن تضيق بها السبل، فتحاصر من كل الجهات ويصعب الارتجاع إلى الوراء أو التقدم إلى الأمام وصاحبها قد أعياه التعب المبكر بعد أن أتى من قرية نائية في أقصى الجنوب على موعد مع حديث مرموق ومشتاق حول «الأنسنة»!
باختصار كنت على موعد مسائي مع الزميل والصديق العزيز محمد العثمان في يوم الثلثاء الموافق 14 مارس/ آذار 2007 للذهاب سوية إلى محاضرة المفكر الجزائري - الفرنسي محمد أركون عن (الأنسنة في الفكر العربي والإسلامي)، حيث تجمعت أمامي في البداية خيارات متعددة تهدف جميعها إلى الوصول إلى مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث بأفضل السبل الممكنة، وفي وقت مناسب يضمن الحصول على مقعدين ونصف ملائمين، في الوقت الذي كان من المتوقع أن يشهد هذا اللقاء الأركوني الثاني في البحرين ازدحاما كبيرا واكتظاظا نخبويا قل نظيره بين سائر الاجتماعات واللقاءات والندوات الأخرى المقامة في البحرين.
وحينما كانت الخيارات تتراوح بين التوجه إلى أقرب بقعة مفتوحة (براحة) قرب بيت حاكم البحرين الراحل الشيخ عيسى بن علي آل خليفة (رحمه الله)، وبالتالي التسلل إلى المركز مشيا على الأقدام، في حين يقتضي خيار احتياطي آخر إيقاف السيارة في مكان مغاير بإحدى الجهات والتوجه سيرا على الأقدام إلى المركز في كل الأحوال أيضا!
ولكن بناء على رغبة دفينة ومتفجرة لدي لم يفلح كلا الخيارين المطروحين لكونهما الأكثر وصولية ومسلكية إلى المركز أو بؤرة «الأنسنية الأركونية»، فلقد جرف طوفان الرغبة الدفينة التي استحالت أشواقا متفجرة غثاء سائر القرارات، ليستقر الأمر على إيقاف السيارة في جهة ضيقة بجوار منزل محمد العثمان والاتجاه سيرا على الأقدام نحو المركز، لتلمس عتاقة السبل، وتوسل الوصول اللذيذ إلى شمعة «الأنسنة الأركونية»، وذلك مرورا بأعرق «فرجان» وطرقات المحرق القديمة وهي فرجان «العمامرة» و «بن هندي» و»القمرة» و «المري»، حيث لطالما أفصحت لزميلي عن رغبتي بالسير والمرور بما تبقى من أحياء المحرق القديمة وأعرق «فرجانها» التي استحالت إلى أحزمة للبؤس والفاقة وسائر أشكال العوز!
بكل تأكيد لم يكن الأمر يحمل مفاجأة لدى مرشدي الحزين والمهموم بأمر أحزمة البؤس والفاقة تلك، وهو الذي نشأ وترعرع وصلب عوده بين تعرجاتها والتفافاتها «العمرانية» الطاعنة في بدائيتها الهندسية، بل شكل الأمر لدي صدمة وأنا برفقته أذرع تلك الطرقات المنسية و»الفرجان» التي تبدو وكأنها شبحية مهجورة لفرط استعارة الظلمة الدامسة الطامسة للتفاصيل والملامح في أرجائها!
وما أن تزداد توغلا في بؤس ذلك الازدحام العمراني البدائي حتى يكاد لبصرك ونفسك أن يزداد ضيقا وانحسارا هندسيا ضوئيا، وأيضا مجازيا أمام مظاهر ذوبان الهويات وأشكال الانتماءات الاثنية واللغوية بين شرق آسيا وجنوبها الغربي وغيرها من بقع العالم قاطبة، وكلها تذوب في بعضها البعض حد الاعتكار الموازي لألوان الجدران والطرقات الصخرية المستعصية على التمهيد الأمثل!
جال كضوء القمر اليتيم في رأسي سؤال كنهه هو «هل سيتمكن الحريصون على أصالة وعراقة المحرق القديمة من تحقيق مآربهم بواسطة حظر تداول العقارات، وذلك في الوقت الذي تمتلئ به الأحشاء العمرانية في الجزء القديم من هذه المدينة بسائر أشكال التلبكات الهوياتية الضائعة والمخاط الثقافي المنفلت نحو أقرب الأرجاء المجاورة في وقت قياسي!»
«هل سيعود من غادر وهجر مأواه وبيته الأول سعيا وراء مكان للإقامة ذو شروط صحية وبيئية ومعيارية أكثر موضوعية من غيرها؟! هل سيجد له بيتا لائقا أصلا وقطعة أرض إن كان محرقاوي «فلة»، وذلك في الوقت الذي يشتري فيه جيرانه الكواكب ويرتهنون الأقمار؟!».
لكن مع ازدياد الأفق الصخري الطيني ضيقا تتبدد سائر تلك الأسئلة والاستيهامات المستوحشة لتتوقف أمام أعتاب إنسانية تتوسل الرفق أسوة بالحيوان، لا تمني اكتساب حقوقا مشروعة، فها مرشدي يتوقف وهلة في أحد أكثر المجمعات فقرا وبؤسا في البحرين «على حد تعبيره» ألا وهو مجمع (203)، إذ يجلس شيطان البؤس على أجنحة الظلام المغبرة بزرقة سديم الحرمان، ليسحق بطرف صولجانه الناعم ما يلقى إليه من هشيم أفئدة!
«ترى ما هي الآثار الاجتماعية والصحية التي تتوقعها إنسانيا في طرقات و»فرجان» كهذه؟!»
«ماذا لو اعشوشب هنا الرماد والاكتئاب بعد أن ينشب حريق كبير (لا قدر الله)؟! هل ستكون هنالك إجراءات وشروط فعالة تكفل تحقيق أمنا وقائيا لأكبر عدد ممكن؟!»
«كيف ستستحيل أحزمة الفقر والبؤس المحرقاوي العريق والأصيل والمعتق إذا ما أنعم الله تعالى على البلاد بأمطار خير وبركة غزيرة كما حدث منذ مدة قصيرة حينما افتضح أمر البنية التحتية والمرافق العامة»ّ!
«هي بلا شك منابع وأوكار الإقصاء والتطرف والعنف، حيث تنوس وتكاد أن تضمحل أكثر أشكال الارتباط المجتمعية الموضوعية والحقوقية، وتتفتت بين دياجير أركانها الملتوية خيوط ولاءات وانتماءات وعقود في دوامة هذا الضياع المتعري من إنسانيته وصدق وجوده!! وأي شرعية إذا لكل ذلك؟!»
وكنا قد توقفنا حينها أمام منزل آية في البؤس والتعاسة يخص قاتل محكوم بالمؤبد في جريمة قتل شهيرة أرعبت البلاد جميعا حينما وقعت بغتة في إحدى الليالي لشذوذها وتمايزها نوعيأ!
«هل يصح شرعا لمرتزق ومتسلق منابر المساجد أو عبد مأمور شرعيا ووقفياَ أن يحرض المساكين والمستضعفين على عدم اقتطاف أو المطالبة بأبسط حقوقهم المعيشية من رفع رواتب وتحسين أحوال؟!».
«هل يحرم العمل النقابي المشروع ويستباح الانتفاع والوصول والابتزاز الانتخابي، وغسيل المال الشرعي بماء التوبة ليخفت زئبق الرشاوي إلى تهلل الصدقات والزكوات؟!».
ما أن تقدمنا قليلا حتى لمحنا أصحاب المنازل من الأجانب والغرباء/ المواطنين والآسيويين وهم يذرعونا ويحاصرونا بأبصارهم المتلهفة الحيرى، فقلت لصاحبي ومرشدي الحزين «لنلقي عن كواهلنا بؤس سؤال الهوية والانتماء والاستغراب والاستيطان، ولنغوص في محيط الإنسانية الجمعاء، ماذا دهاهم هؤلاء؟! وكأنما هم يمام يتربص بنا حبيبات النخالة والشعير؟!».
فرد زميلي وصاحبي ومرشدي علي «أن يمر أكثر من فرد واحد وعليه يبدو حسن الحال واستواء المعيشة، فهو يقع ضمن أبجديتهم في مواقع الصدقات والزكوات الموعودة، أو ربما «شرهة» أو كفارات يمين؟! هؤلاء كعادتهم ينتظرون أن يأتي منا الفرج؟!».
قلت له: «هل تكفي لإصلاح كل هذا البؤس والفاقة «صدقة» أو «خيشة» عيش أو حتى «خيشة أنواط»؟! أم أن المسألة في الأصل مرتبطة بأنسنة الاقتصاد معيشيا وأنسنة القرار السياسي لصالح أهل البلد وأغلى ثرواته؟!».
«الفقر يستعر في أكباد كبريات المدن، ولا يقتصر على القرى النائية والمترابطة، كما أنه لا يحمل في جيبه بوصلة طائفية واثنية، وإن زلت خطاه تارة هنا وهناك؟!».
«على الأقل لترتبط المسألة بتوطين الفقر ومنحه جوازا أحمرا وكامل حقوق ومزايا المواطنة، والاعتراف بشرعيته الناطقة، وبحقه في أن يعلن عن نفسه موضوعيا؟!».
«هل يقتضي حسن النظر ودقة التخطيط والاختيار أن يتم تحسين حال الأصيل أولا قبل ترفيه الاصطناعي في هذه البلد؟! وأعني أن تنفذ الوعود المقطوعة من رقبتها وتوصل الأفئدة بحبال الحقوق لا المكرمات والصدقات، عوضا عن الانشغال بغرس جزائر اصطناعية متلألئة فوق أشلاء ثمار وعطاء البحر وأرزاقه المقطعة، وبدلا من التباهي بتشييد جنات عدن الرابضة بين وعلى وفوق أنابيب تصاهر الجحيم؟!»
«أما آن الوقت للالتفات إلى أحزمة البؤس والفاقة وسلاسل الميكروبات الاجتماعية هذه وهي أعرق الفرجان؟! أما آن الوقت لمنع تداول الفقر والفاقة قبل العقار؟! كيف حال «قلالي» الإهمال والنسيان الموعودة؟! و»المعامير» إذ كل شيء قابل للسرطنة! وغيرها من أحياء وبيوت وطرقات بحرينية تتعرض للإبادة الجماعية الباردة عن غير قصد بعدما أبيدت القيم وجدعت أسئلة المرؤة والأخلاق؟!».
أوشكت على الصراخ قبل أن يبدأ تماوج الظلمة الدامسة في الخفوت، ويتداعى وراء خفوته الكلام الآيل للسقوط، حينما شذب الزخرف الملون وضوء اللمبات براثن الفاقة تلك، واقتربنا من نيل جائزتنا ربما متأخرين قليلا، فجائزتنا ليست بلا شك «بقالة» أو «بقال» أو «خبازا» و»مقهى زمان لول» بل المفكر محمد أركون وحديث أنسنته، وموعد مع عشق وتيم المريدين، وجدال الحاضرين وخواء وصفاقة البعض، وتبادل الفقهاء والمفكرين والمؤدلجين أدوار بعضهم برغم ضيق حيز الزمكان، ومع رحابة الصدر «الأنسنية» الفائضة حد الرش والبلل على الجميع!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1653 - الجمعة 16 مارس 2007م الموافق 26 صفر 1428هـ