قبل عام مضى بدت أوروبا الوسطى مثلا يحتذي به الآخرون. أما اليوم فإنها منطقة تتسم بالتعصب المتنامي وعدم الاستقرار السياسي. البعض يلوم الإصلاحات الليبرالية، زاعمين أن الرأسمالية ركزت أموالا كثيرة وسلطانا في أيادٍ قليلة.
أما الحقيقة فهي أن الإصلاحات لم تذهب إلى الأبعاد الكافية. فقطاع الأعمال مازال يرزح تحت وطأة أنظمة مبالغ فيها والحكومات تنفق أموالا كثيرة. هذا يشعل موجة الفساد وعدم الرضا الشعبي بالنسبة إلى العملية الديمقراطية.
وعموما، إن أوروبا الشرقية تمثل قصة نجاح. جمهورية التشيك وسلوفاكيا وهنغاريا وبولندا تنتهج ديمقراطيات السوق الحرة. وبينما كانت تلك الدول سابقا جزءا من حلف وارسو، فإنها الآن أصبحت أعضاء في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. شعوب أوروبا الوسطى تحصل الآن على مداخيل أعلى ويعيشون حياة أطول ويلتحقون بالمدارس أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك فإن الليبرالية، وهي فلسفة الحرية السياسية والمدنية والاقتصادية التي كانت الأداة في تحقيق تلك المكاسب، هي الآن في موقع الدفاع.
في سلوفاكيا هزم تحالف وطني اشتراكي حكومة ميكولاس تزوريندا الإصلاحية، وفي بولندا استطاع تحالف بين المحافظين والوطنيين إبقاء دعاة الإصلاح المدني خارج الحكم. وفي جمهورية التشيك، نجح الحزب الليبرالي المدني الديمقراطي في الانتخابات، بيد أنه أضعف من أن يتمكن من تشكيل حكومة. وفي هنغاريا أُبعد الشعبيون من الحصول على السلطة، ولكن بمجرد شعرة، وبسبب أن أصحاب السلطة من الاشتراكيين كذبوا بشأن حقيقة وضع الاقتصاد العام.
وقد رأى كثير من المعلقين في أداء الأحزاب الليبرالية الضعيفة في الانتخابات علامة على ضعف التأييد العام للسوق الحرة. بيد أن الحقيقة هي أن معظم الاستطلاعات التي أجريت في البلدان التي التحقت بالاتحاد الأوروبي والتي قام بها معهد غالوب في العام 2003، وجدت أن معظم سكان أوروبا الوسطى يؤيدون المنافسة الحرة، كما يؤيدون تدخلا حكوميا أقل في حياتهم. وكذلك، إن الكثير من إصلاحات دزوريندا الراديكالية، بما في ذلك الضريبة المقطوعة، قد نالت تأييد غالبية الشـــعب الســـلوفاكي قبيل انتخـــابات 2006.
إن صعود الأحزاب الشعبية في أواسط أوروبا يعود جزئيا إلى وعودها بمحاربة الفساد. وعلى سبيل المثال، إن تصنيف بولندا في سلم قياس الفساد على المستوى الدولي من حيث الشفافية قد هبط إلى 3.4 في العام 2005 من 4.6 في العام 1998 وهبط تصنيف التشيك إلى 4.3 من 4.8 وهنغاريا ظلت في مستوى 5، أما في سلوفاكيا فقد ارتفع المؤشر إلى 4.3 من 3.9. وعلى النقيض من ذلك، إن آيسلندا - التي كانت تُعتبر من أقل بلدان العالم فسادا - نالت 9.7 نقاط من مجموع 10.
لماذا يظل الفساد مشكلة كبيرة في أواسط أوروبا؟ على رغم الارتفاع الدراماتيكي في حرية الإقليم الاقتصادية منذ زوال الشيوعية، فمازالت معظم اقتصادات أوروبا الوسطى مكبلة بالأنظمة. وقد وجد البنك الدولي أن سلوفاكيا وجمهورية التشيك وهنغاريا وبولندا مكبلة بأنظمة أكثر من معظم اقتصادات البلدان المتقدمة بما في ذلك معظم الدول الأعضاء في المجموعة الأوروبية. هذا يعني أن هنالك جيوشا من البيروقراطيين في تلك البلدان الأربع، التي يوجد لديها فرص عدة لابتزاز الرشا من الشركات الخاصة.
يضاف إلى ذلك أن الشفافية الحكومية، والرقابة البرلمانية، واستقلال القضاء وقوة جهاز الخدمة المدنية تظل غير متطورة نسبيا في أواسط أوروبا. فالإنفاق العام قليلا ما يكون شفافا، كما أن أنظمة العطاءات للعقود الحكومية كثيرا ما تخضع إلى أهواء الموظفين العامين شديدي الطمع. وهكذا، إن الأنظمة الكثيفة والعطاءات التي يلفها الغموض قد ساهمت في خلق طبقة كاملة من الناس تربطها علاقات سياسية، التي جمعت ثرواتها بوسائل غير مستقيمة. وقد انتقم الرأي العام الغاضب من الطبقة الحاكمة الفاسدة بسحب تأييده عن الأحزاب السياسية القائمة.
إن صعود الأحزاب الشعبية من شأنه أن يؤجل المزيد من الإصلاحات الاقتصادية. هذا أمر يُؤسف له؛ لأن حجم وآفاق الدولة في أوروبا الوسطى لابد أن يخفَّضا لتقرير مشكلة الفساد. ومن المفارقات أن تأجيل المزيد من اللبرلة، وما يرافق ذلك من فشل في معالجة الأسباب الكامنة وراء الفساد قد ينال من أوضاع حكام أوروبا الوسطى الجدد وأن تمهد الطريق لتجددٍ ليبرالي.
*مساعد مدير مشروع الحرية الاقتصادية العالمية بمعهد كيتو في واشنطن
ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»
www.misbahalhurriyya.org
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 1653 - الجمعة 16 مارس 2007م الموافق 26 صفر 1428هـ