يعتبر علي شريعتي من ألمع المفكرين الإيرانيين في النصف قرن الماضي وأكثرهم تأثيرا على الجيل المعاصر له والذي كان جيل الثورة الإسلامية الإيرانية التي انبثقت بقيادة الإمام الخميني رحمه الله.
ولكن المتتبع لأفكار شريعتي لا بد أن يلاحظ غالبية الحال الخطابية الثائرة، والتي لا تخلو من اضطراب وعدم تناغم في مقام التنظير - ولعل ذلك يعود إلى المرحلة الزمنية التي عاصرها والتي كانت مشحونة بالأدلجات لدى اليمين واليسار على حد سواء.
ويمكن أن نأخذ كتابه (العودة إلى الذات) مثالا على ما نقول، إذ يبدأ الإرباك والغموض لدى القارئ منذ مطالعته للمقدمة والتي جاء فيها «والآن أقولها صريحة إن منطلقنا هو الذات الإسلامية نفسها وينبغي أن نجعل شعارنا هو العودة إليها لأنها الوحيدة القريبة منا من بين الذوات»، ثم يقول «ولكن ينبغي أن لا يطرح الإسلام بصورته المكررة وتقاليده اللاواعية العفوية فذلك أكبر عوامل الانحطاط بل ينبغي أن يطرح في صورة إسلام واعٍ وتقدمي، وهو مسئولية المفكر دينيا كان أو علمانيا... وفي الوقت نفسه وعن طريق تغيير ما، يتحول الإسلام من صورة تقليد اجتماعي إلى صورة ايديولوجية ومن صورة مجموعة من المعارف تدرّس في المعاهد العلمية إلى إيمان واعٍ للحياة».
ولكني أعتقد بأن القارئ لو أكمل قراءة المقدمة والكتاب معا فلن يفهم ما هي أدوات العودة الى الذات؟ وما هي عناصر الطرح الواعي للإسلام؟ وكيف نفرق بين الإسلام التقليدي وبين الإسلام التقدمي؟ وكيف يكون ذلك مسئولية المفكر الديني والعلماني معا؟ وكيف يمكننا البحث عن الذات التي قذفها هو نفسه - بوسائط أو بغير وسائط - بألوان السخرية والتذمر؟! وكذلك نجده في ثنايا الكتاب يتحامل على التراث الديني بضراوة ويعتبره سببا لتأخر المسلمين ثم يعود فيدفع بشدة تجاه الماضي المجيد ويؤكد عدم الاستعاضة عنه بالجديد، مع إن التراث - الذي ما فتئ يتهكم عليه - هو مرآة ذلك الماضي ونتاجه والناقل له، والعلاقة بينهما هي علاقة الصنو إلى صنوه أو الفصيل إلى أمه ولا يتحقق التفكيك بينهما بمجرد ادعائه أو الدعوة إليه.
ثم كيف ينسجم اندفاعه الكلامي تجاه الماضي مع إصراره على «ان الإنسان وليد التاريخ، والشخصية الإنسانية هي مجموعة الخصائص التي استمدها من تاريخه» فهذا الكلام كما يربط الإنسان بتاريخه من حيث تأثره به وتفاعله معه فهو في الحقيقة يفصله عنه من جهة أخرى.
وذلك لأن التاريخ - بحسب إقراره - حال تراكمية تبدأ من الماضي السحيق وتتصل باللحظة الراهنة، وهي تسير الى الأمام بنحو يستحيل معها الرجوع الى الوراء وذلك لأنه إلغاء لحركية التاريخ التي لا تتوقف لحظة، فلو رجعنا مثلا عشرين سنة الى الوراء وتقمصنا الحال المناسبة لتلك الفترة فسنضطر لا محالة الى إلغاء تلك العشرين سنة وكل نتاجها وكل حال التراكم المسببة عنها.
ومن هنا فإن الدعوة الى تقمص الماضي في الوقت ذاته الذي يعتبر فيه الإنسان وليدا للتاريخ هي دعوة لا تخلو من إرباك وغموض، وهكذا عندما نريد العودة الى الذات فهل هي الذات المفصولة عن تلك الحقبة أم الذات المتصلة بها؟ فإذا كانت المفصولة فذلك يتنافى مع تراكمية التاريخ، وإذا كانت متصلة فهي لا تنفك عن الحاضر الذي لا تتمايز فيه الذات بشكل مطلق عما حولها من البشر - ومن ذلك خصومها الحضاريين أيضا - بل هي متفاعلة معها بالتأثير والتأثر ويستحيل ان نضع بينهما جدرا حاجزة، وهكذا نستطيع استكشاف الخلل في قوله الآتي: «أول ما فعله الاستعمار وخصوصا في المجتمعات ذات الحضارة التاريخية هو أنه فصل الجيل الحالي عن تاريخه باسم التحديث والعصرنة... هذا التحديث وهذه العصرنة التي قدموها لنا نحن البشر البسطاء المظلومين باسم الحضارة، أي أنهم نقلوا عقولنا الى عيوننا واستبدلوا عندنا الوعي الحقيقي بالمظاهر الخادعة»، ثم يواصل كلامه مستغرقا في سياق نظرية المؤامرة وما سببه الاستعمار من تخلف ودمار حضاريين، ويكاد يوحي كلامه بأن الاستعمار هو الوحش الأوحد الذي دخل الجنة الوارفة فأفسدها! ويا ويل الاستعمار البغيض، فقد أفسد علينا متعة العيش الكريم تحت ظل عدل السلاطين المسلمين من الترك والفرس!
ولكن السؤال هو: كيف استطاع الاستعمار أن يزرع عوامل التخلف فينا بمعزل عن التراكم التاريخي لماضينا وحاضرنا؟ وكيف أمكنه أن يقطع تلك التراكمية التي هي - بحسب شريعتي نفسه - حتمية غير قابلة للاجتناب؟ وهل صنع الاستعمار أسباب تأخرنا على كل المستويات من لا شيء؟ أم هي نتيجة لاستتباعات تاريخية مترابطة كان الاستعمار مجرد حلقة من حلقاتها المستطيلة؟
ثم يقول: «ينبغي أن يصل الناس إلى الوعي بحيث يصبحون هم أنفسهم أصحاب ذوات إنسانية ويرتقون من مرحلة التقليد والتبعية لقياداتهم الدينية والعلمية التي تحتكر الفتوى والقدوة وعلاقتها بالناس هي علاقة المراد والمريد والعالم والعامي والإمام والمأموم إلى مرحلة النضج الاجتماعي والسياسي ليكون فيها أولئك القادة هم الخاضعون لإرادة الناس وخط سيرهم الواعي»، وعجبي! كيف تنسجم هذه الدعوة الصريحة الى إلغاء المرجعية الدينية مع ادعائه الرغبة في استعادة الماضي الذي هو - في الحقيقة - الرحم الذي تمخضت عنه تلك المرجعية والمنبت الذي أنتج نظامها العتيد؟
ومع ذلك كله فلعلنا نتفهم بعض الغموض في تلك التنظيرات، وذلك لخطورة المضامين التي حاول هو ويحاول آخرون معالجتها وخصوصا ما يتصل بتحديد هوية الذات وكونها مطلقة أو نسبية، وهل لها ثبات وهوية محددة أم هي حال سيالة دائمة الحركة؟ وهل يمكننا صون ذاتنا - بكل مكوناتها - عن التغيرات الوافدة من خارجها؟ أم إننا نعيش الآن في عالم قد سقطت فيه الحدود المعنوية وأصبحنا نتجه - فعلا - الى الخروج عن العوالم المتعددة الى عالم واحد متداخل في التأثير والتأثر؟ ولكن الشيء المؤسف هو إن تداعيات هذا التفاعل دائرة لدينا - في الغالب - بين استغراق في الجمود على الأشكال الماضية وتحريم كل أنماط التفاعل الثقافي والتجديد الفكري وذلك كردة فعل غير صحية تجاه الوحش الجديد الغازي للديار، وبين انفلات نحو الآخر طابعه الدهشة والطيش والانبهار، بل إننا - في الواقع - نقيس الأفكار بغير ميزانها فنخضعها لمزاجية مفرطة أدواتها الرغبة وعدم الرغبة وليس الدليل وعدم الدليل، ولذلك افترقنا الى منقبضين هنا الى مستوى التحجر ومنبسطين هناك الى مستوى التحلل، وكما يقول شريعتي في كتابه المتقدم: «هنا فئة تعطي كل وجودها من أجل منظومة دينية لا تعرف كنهها ولا تميز بين حقائقها ودخائلها وهناك فئة تفعل الشيء ذاته ولكن من أجل حضارة وافدة لا تعرف ماذا تعني أصلا وما هي حسناتها وسيئاتها، فلو فرضنا المجتمع شخصية إنسانية فليس هؤلاء وأولئك سوى أعضاء ميتة في جسده ولا حياة لهم سوى الأشكال والقشور»، وكذلك لا ينسى شريعتي بأن «الأفكار الجديدة تبدأ مرفوضة لدى الأكثرية وعلى صاحبها أن يخوض المعارك من أجلها، ولكن ما إن يكتب لها النجاح واختراق المعوقات حتى تصبح موضة سمجة وركيكة يرددها من لا يدرك مغزاها ولا يعرف نتائجها ولا منابعها - كما يفعل الكثيرون اليوم بمفهومي الديمقراطية والتعددية مع إنهما كانا من أعظم الكبائر قبل سنين قليلة - فالمفكر الواعي في عناء على كل حال سواء حظيت أفكاره بالقبول أم صدمت بالرفض».
والملاحظ هو إن شريعتي يحاول أن يقف في الوسط بين الصفين، في حال أن من يقف متأنيا بين طرفي الجمود والانفلات هو شخص محكوم عليه في ثقافتنا السائدة بأنه إما جاهل لا يفقه حقائق الأشياء، وإما مراوغ يسعى إلى التذاكي والاستئكال بالأطراف!
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1652 - الخميس 15 مارس 2007م الموافق 25 صفر 1428هـ