ليس هنالك أسوأ من الوهم سوى مقايضته بوهم آخر، ومثل تلك المقولة تبرز جلية حينما يعمد من آن لآخر وبعد فترة تأزيم وحقن واحتقان طائفي متواصلة إلى رفع ورقة «التقريب ما بين المذاهب»، ولإظهار علماء الطائفتين الكريمتين، وإقامة المؤتمرات والندوات والمآدب الدسمة، وتنظيم الزيارات المتبادلة في عموم الخمسة كيلومترات جيئة وذهابا من البلاد، وختامها قبلات وعناقات على المفترض أنْ تحل المشكلة، فهل تنتهي هذه الأزمة؟! أو هل تحل الأزمة من بعدها؟!
للأسف إنّ «التقريب ما بين المذاهب» كما هو يستخدم كورقة سياسية إنْ لم «يحل» الأزمة اللازمة ويفك عقدتها فهو إنما يزيد من تعقيدها وتشوشها، ويضلل ويطمس حقيقتها الفاصلة، فيكون هذا «التقريب» أسوأ من الطائفية واحتقاناتها المدمرة ذاتها حينما يوحي بأنّ أساس الوضع الخطير القائم في البلاد، إنما هو الاختلاف والتعدد المذهبي، وحله يكمن في مزيدٍ من الزيارات والمآدب والندوات والتبريكات لـ «الوحدة الوطنية» و»وحدة المرجعية الإسلامية»، وهو بذلك إنما يكسب اصطناعية الوضع الخطير القائم أصالته الجذرية، ويجهل الأساس السياسي والمطلبي لهذه الأزمة التي يبرز من بين مسبباتها عجز وعدم جدية واستعداد السلطة التنفيذية في التخلي عن قسط من سلطاتها وصلاحياتها للسلطة التشريعية أو للمجتمع وللشعب بعد عقود من الاستفراد والتوحد التاريخي!
كما أنّ هذا «الحل التقريبي» العقيم الذي يرفع بعد كل «شوشرة» كما لو أنّه «نقطة نظام» يعمي الأبصار بشأن السعي والإمضاء الاستراتيجي لمجموعة سلطوية ونافذة على استعداد للوصول بالمجتمع وسوقه إلى مذابح مرحلة ما قبل الدولة، وإعادته إلى زمن العصبيات حيث تسود ولاءات الطوائف والقبائل والفئات والإثنيات على حساب الولاء لـ «المصلحة الوطنية الجامعة»، لتتنافس على تعريفها وزعم امتلاك خواتيمها والذوبان في التسبيح بحمد السلطة على أمل أنْ تضيف لهم من النفوذ والصلاحية والمنفعة المؤقتة التي تبز بها أختها الطائفة أو القبيلة أو الفئة الأخرى وهو ما يحول بالتالي ما بين المجتمع وقضاياه الوطنية الكبرى المراد إشغاله عنها!
وهو ما قد يخلق قشرة من السلام الوهمي الذي يعتم واقع الفشل الذريع في إنجاز بناء الدولة الحديثة التي تقتضي خلق الجماعة الوطنية وفي سعيها للانسجام مع المجتمع والتعاقد عمليا معه بعيدا عن فرض الإملاءات، والأسوأ من جميع ذلك هو أننا وفي ظل الهدوء الأعمى والمتخيل الذي يضفيه «الحل والدعوة التقريبية» على المشهد، فإنّه وبالإضافة إلى كونه يحاول أن يبين بأنّ أصل المشكلة في الاختلاف والتعدد المذهبي، فهو يتستر ويتواطأ على الغزو والسلب الحقيقي ممثلا في سعي رجالات الدين والطائفة والفئة متسلّحين بقوّة الفتوى والمسحة الرمزية والكاريزمية للاستيلاء الاحتكاري والغزو بدافع سياسي ومصلحي بحت على حقول وفضاءات العمل السياسي والاجتماعي، فيبستنوها ويهندسوها «ضيعات» سياسية يستعرضون فيها نفوذهم ونفوذ حاشيتهم باسم الإيمان واليقين الذي قد يتعدد في الشبر الواحد!
فرجال الدين والشيوخ ووجهاء الطوائف والفئات المستولون على حقول وفضاءات السياسة هم جزء كبير من عصب الأزمة لا بلمسها كما قد يوحى بذلك، وهو ما تكذبه التجارب المعتبرة ومنها التجربة البرلمانية الأخيرة التي تمكنت منها غريزة «الاستحواذ الانتخابي» على حساب رغبة الإنجاز والبناء الاحترافي والتقني لدى تيارات التمكين السياسي «الشرعي» بسنيها وشيعيها، ومثل هذا التعدي والتجاوز والاستيلاء المقنن و»المقدنس» هو أسوأ من أنْ يتعدى ويتجاوز الميكانيكيون مثلا على تخصصات جراحي المخ والأعصاب أو القلب فيزاولونها كما لو أنها مهنتهم أو قريبة منهم، فبدلا من أنْ يسعى رجل الدين وشيخ الطائفة إلى إرشاد الخطاب السياسي بنور المصلحة العامّة وبالقيمة الدينية المثلى والسامية تجده يخلط ما بين ماء الدين ونبيذ السياسة، ويرتشفه؛ لتتعسر الحاجة إلى ترشيد الخطاب الديني أو الخطاب السياسي معا لهذا الرمز المتجاوز حتى لحدود رمزيته!
والغريب في ذلك أنّ اللجوء المتبادل إلى وهم آخر ممثلا في «الحل التقريبي ما بين المذاهب وشيوخ الطوائف» بدلا من وهم «التعايش المستحيل» ورغم إغراقه في السطحية والتضليل يأتي في الوقت الذي أطلق عليه الشيخ يوسف القرضاوي طلقة الرحمة المدوّية واستحال على يديه من تقريب ما بين المذاهب إلى تخريب ما بينها!
كما أنّ هذا التقريب وفي ظل تعقيدات الظرف الراهن قد يصبح وجها آخرا لعملة التسلّق الاجتماعي والسياسي، وخلق رموز ولو من قش وتبن، وهو لا يختلف عن الوجه الآخر ممثلا في التحريض والإثارة الطائفية؛ لكونهما امتدادا واحدا للتضليل الضبابي وحالة اللا أفق، ولا زلت أذكر أحد الوجوه البارزة في الشأن العام التي لطالما ظهرت كداعية للتقريب ما بين المذاهب، وأخذت تتنقل من منبر صحافي إلى آخر ومن مسجدٍ إلى مسجدٍ ومأتم إلى حسينية حتى وصلت إلى مبتغاها الآخر، فنادت وأوصت من على المنابر وفي المجالس أثناء الفعاليات الانتخابية بضرورة الاستفادة من الخبث والدهاء المعتق والتخفي والتنكّر الشرعي لدى إخواننا في الطائفة الفلانية الأخرى، ولابدّ من محاولة استيلاده لدينا حتى نتفوّق عليهم به ولا يغلبوننا ونحن الأعلون!
إننا بحاجة إلى اختصار عقود أو قرون طويلة من الجدال المذهبي والبيزنطي العقيم، ومن مسالك التنشئة المحملة بالإكراهات والمشبعة بخطايا المسئوليات التاريخية الجسيمة؛ لنستبدلها بالتقريب ما بين التطلعات الوطنية والحيوات وأوجه التعايش الفطري المنطلقة من أرضية وواقع تاريخي وأزلي مشترك، فلعمري ذلك أشد نفعا من تلك اللذة الخادرة والكاذبة للتنعم في وهم من الأوهام القاتلة والمدرة للإحباط واليأس نتيجة لا للأمل والصحوة، فالأزمة في هذه البلاد لم تك قط في منابعها الممرغة بطين الأوهام مذهبية وإنما هي سياسية ومطلبية بحتة
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2250 - الأحد 02 نوفمبر 2008م الموافق 03 ذي القعدة 1429هـ