حين تعود إلى بيروت وتجلس على إحدى الشرفات التي تطل على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، فتمد ناظريك إلى ما وراء الأفق البعيد فترى أنه خالٍ من أي سفن حربية إسرائيلية معتدية، ثم تأخذك أمواجه بعيدا، تسافر مع زرقة البحر منتشيا حتى تلتقي بزرقة السماء الصافية من طائرات الإمكا التي لاحقت المقاومين الأبطال فاغتالت عددا منهم أيام عدوان يوليو/ تموز 2006، تعرف أن عصر الانتصارات لايزال يرفرف على سماء لبنان العظيم.
تنتابك نشوة انتصار، وتعود بك الذاكرة إلى أيام الحرب الصهيونية الغاشمة، وتحديدا إلى تلك اللحظة الفاصلة في تاريخ سير الحرب التي أرادوها لتدمير المقاومة فإذا هي حرب العاجز والمفلس الذي لم يعرف أن يغطي فشله أبدا، تتذكر سيد المقاومة وهو يلقي خطابه الشهير، فإذا به يقول لكل العالم «انظروا إلى البحر في هذه اللحظات البارجة الصهيونية التي قصفت أهلنا ودمرت بيوتنا في الضاحية الجنوبية والتي اعتدت علينا، انظروا إليها تحترق وستغرق في بيروت البحر...».
يومها طار العالم المحب للحرية والحق من الدهشة والإعجاب، في حين خرست أصوات المشككين وانتابتهم موجة حزن وهلع، فلقد نقلت شاشات المحطات الفضائية التي عايشت يوميات الحرب ذلك المشهد الرهيب الذي أقامنا من مقاعدنا فرحا وابتهاجا بالنصر وبتحقيق وعد سيد المقاومة وحامل بيرقها المنتصر سماحة السيدحسن نصر الله.
وحين يلامس وجهك نسيم بيروت البارد تنتعش أكثر، ثم تعود إلى الأجواء اللبنانية هذه الأيام فتراها لاتزال حبلى بالمفاجآت وبالوعود التي يطلقها سيد المقاومة وعدد من رموز المعارضة، عندها تقرر أن الوقت قد حان للانتقال إلى وسط بيروت، تأخذك السيارة عبر شوارع وطرق التفافية ومتقاطعة، فتصعد فوق عدد من الجسور وتمر من بين عدد من الأنفاق التي شيدها الشهيد الراحل رفيق الحريري، ثم تجد نفسك فجأة في موقع الحدث الذي شغل بال الدنيا، إنها ساحة الاعتصام المفتوح الذي أكمل يومه 100 في أطول اعتصام عرفته البشرية حتى الآن، تمعن النظر جيدا وتحدق بعينيك في المشهد حتى تبتعد عن التفكير في أي شيء سواه.
تخطو أولى الخطوات على أرض مخيم الاعتصام، تشعر أن ساحة رياض الصلح وساحة الشهداء في وسط بيروت، لم تعودا كما كانتا قبل احتضان الاعتصام، لقد أضحتا معلما بارزا فوق خريطة هذا الكون، فأي مكان آخر في العالم احتضن كل هذه الجموع التي جاءت تنشد الحرية والحق، تبالغ في الاحتفاء بتلك الرقعة من الأرض، وتتحسس موطئ قدمك حتى تضعها برفق فوق أرض الاعتصام.
تصل إلى وسط المخيم تود لو أن هناك سجلا للزائرين، وموقعا لرسم خطوات عشاق الحرية والكرامة، لكنك تكتفي بمجرد الوصول إلى ذلك المكان المجلل بالعز والعزيمة والثقة الصادقة في أن حلا كريما عزيزا قادم للبنان لا محال، عندها تعرف أن ما تنقله المحطات الفضائية الصادقة مع نفسها عن هذا المهرجان هو عين الحقيقة، وتتيقن أن تلك الساحات تكتب مستقبل لبنان الحر والسيد!.
تتلفت إلى كل الاتجاهات، فلا ترى سوى الخيام المتداخلة مع بعضها في مشهد ينطبع في الذاكرة فورا، هنا تجد كل أطياف المجتمع اللبناني، هنا تعيش مع فسيفساء لبنان الملون بمختلف الأعلام، والمعبر عن تنوع لبنان وتعدده الاجتماعي والثقافي والديني الجميل، في وسط ساحة الاعتصام تنتصب منصة الخطابة التي طالما وقف عليها زعماء المعرضة ليخاطبوا الجماهير المحتشدة، وبالقرب من المنصة شاشة كبيرة للبث التلفزيوني تنقل الأخبار أولا بأول، وحولها يتحلق اللبنانيون بكل شغف ومودة، يشاهدون ويستمعون إلى الجديد ويتفاعلون مع الحدث بشكل عفوي وصادق.
في ذلك اليوم (الخميس 8 مارس/ آذار) نقلت قناة المنار خبرا يؤكد أن رئيس وزراء العدو الصهيوني أيهود أولمرت، اعترف أمام لجنة تحقيق في الكنيست بأن عدوان تموز كان مشروعا يخطط له منذ أيام سلفه الغائب عن الوعي وعن الساحة المجرم السفاح أرئيل شارون، الذي طلب من جيش العدوان الصهيوني إعداد بنك أهداف في لبنان في نوفمبر/ تشرين الثاني (2005).
ينصت الجميع إلى تقرير المنار الذي أضاف أن أولمرت قد أكد أن النقاشات الجدية لشن العدوان على جنوب لبنان قد تمت في الثامن من يناير/ كانون الثاني 2006، لكن القرار بالعدوان بهدف القضاء على حزب الله ونزع أسلحته وإبعاده عن الجنوب قد اكتمل وأصبح جاهزا للتنفيذ اعتبارا من مارس 2006، أي قبل الحرب بأربعة أشهر تقريبا، وهنا تضج الساحة بالتصفيق خصوصا عندما ظهرت صورة الأمين العام لحزب الله اللبناني، وهو يعلن في 26 يوليو 2006 أن حرب تموز كانت مبيتة وليست لها أية علاقة باختطاف الجنود الصهاينة، لقد أخبرهم سيد المقاومة بحقيقة الحرب قبل أكثر من سبعة أشهر من اعتراف أولمرت لكنهم كانوا يريدون تكذيبه حتى يلقوا عليه التهم جزافا.
تستدير إلى يسار المنصة فتصافحك وجوه عدد من الشهداء الذين سقطوا في المواجهات التي كانت تنذر بجر لبنان إلى الفتنة الطائفية والحرب الأهلية من جديد، أربعة شهداء يعبدون بدمائهم الزكية درب الأحرار لنيل الحرية والكرامة تتوسطهم صورة الشهيد أحمد محمود، الذي كان أول قربان على درب المطالبة بحكومة الوحدة الوطنية.
تذهب بخيالك بعيدا، تتساءل عن منشأ تلك القدرة العجيبة على الصبر وضبط النفس حتى في أحلك اللحظات وأصعبها، تتذكر كيف خرج السيد نصر الله على شاشة التلفزيون ليقول للمحتشدين في الساحات، إن اعتصام وسط بيروت لن يتحول إلى ثأر، ولن يتمكن أصحاب الفتنة من نيل مرادهم في جر المعرضة لحرب أهلية، وحتى لو سقط ألف شهيد فإن الرد لن يكون بالتحول إلى العنف، مؤكدا أن بندقية المقاومة ستوجه فقط ضد العدو الصهيوني، وأن المعارضة لاتزال تنظر إلى الموالاة من زاوية الشراكة في الوطن، وأن الطريق للخروج من المأزق هو حكومة الوحدة الوطنية.
في تلك الأمسية الجميلة، كانت السهرة مع أبناء لبنان وسط الخيام ساخنة وزاخرة بالنقاش في كل ما يهم المواطن العربي، وعلى رغم تنوع الجالسين واختلاف مشاربهم وأعمارهم فإن الجميع كان يؤكد، (نحنا قاعدين، ما راح نفل إلا لما يوافقوا على حكومة الوحدة الوطنية، كم شهر بدهم إحنا جاهزين) وبينما نحن في سجال نتبادل الآراء والتحاليل السياسية، كانت مجموعة من الشباب تضرب الطبل وتنشد بعض الأهازيج اللبنانية التي رقص على أنغامه عدد من الحاضرين الدبكة اللبنانية.
كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، عندها قمت عائدا إلى الفندق الذي أنزل فيه مع صديقي الذي أكد لي أن السهرة ستطول، وأن أفواج المعتصمين لن تبارح ذلك المكان إلا بعد إيجاد حل وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وصلت إلى الفندق وأنا أحدث نفسي قائلا... من يمتلك هذه العزيمة لا يعرف الهزيمة.
وضعت رأسي فوق الوسادة، ولسان حالي يقول أيها السادة... لبنان هزم «إسرائيل»، وكشف زيف أميركا التي تدعي أنها تدافع عن الحق والحرية، وتنادي بالتعددية والديمقراطية، لكنها في حقيقة الأمر قد فضحت كذبها وبدأ نجمها في الأفول.
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1650 - الثلثاء 13 مارس 2007م الموافق 23 صفر 1428هـ