دحرج القائد الليبي معمر القذافي، لغما أوليا واختباريا، في طريق انعقاد القمة العربية المقررة في الرياض يوم 28 مارس/ آذار الجاري.
اللغم على صغر حجمه وقلة تأثيره، جاء ليلقي بظلال جديدة، على مسألة الحضور والتمثيل في القمة، وعلى أي مستوى، بعد أن أعلنت ليبيا قبل أيام، أن القذافي لن يحضر، وأن مقعد ليبيا سيبقى شاغرا، وهو أمر قد يشجع آخرين من القادة العرب على عدم الحضور؛ ما نعتبره - كأي تغيب أو انسحاب - مجرد تهرب من المسئولية.
ليبيا لديها اعتراضات دفعتها إلى دحرجة اللغم، أولها الاعتراض على انفراد دول عربية معينة بتحركات سياسية تتعلق بقضايا الأمة، من دون التشاور مع شقيقاتها، مثل اجتماع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن مع وزيرة الخارجية الأميركية، ومثل اجتماع إسلام آباد الذي ضم بعض الدول العربية مع دول إسلامية أخرى.
وثاني الاعتراضات الليبية يتعلق بمكان انعقاد القمة، فقد قررت القمة الماضية في الخرطوم، انعقاد القمة القادمة في شرم الشيخ واتخاذ هذه المدينة مقرا دائما للقمم العربية بناء على اقتراح سعودي، وفجأة قبل أسابيع تقرر نقل القمة من شرم الشيخ إلى الرياض؛ ما أثار أسئلة لا تنتهي.
وفي كل الأحوال، وبصرف النظر عن مدى تأثير اللغم الليبي، فإن القمة القادمة، تنعقد في فترة من أصعب الفترات المحمّلة بالأزمات والضغوط، المحاطة بالمعارك المسلحة والتوتر والعنف، بينما مئات الآلاف من القوات الأجنبية تسرح وتمرح حول وفوق وتحت الجميع وبعلم ورضا الجميع! لذلك يذهب العرب إلى القمة بقليل من المتاع، كلامهم كثير وفعلهم قليل، أزماتهم عنيفة وأساليب معالجتها ضعيفة، استعراض بلاغتهم رائع واستغلال قوتهم ضائع؛ ولذلك يسهل علينا وعلى الآخرين القول: إن سلبيات العرب وضعفهم وفقدان دورهم حتى في إدارة شئونهم، ليست مسئولية أميركا وتدخلها الضاغط فقط، ولكنها في الأصل والأساس مسئوليتهم هم... الذين فرطوا واستسلموا وتهاونوا، ثم باعوا.
ولن نبالغ أو نتجنى كثيرا إن ادعينا بقلب حزين، أنه بعد أكثر من 60 عاما أثبت النظام العربي الرسمي فشله، ومن أسف فإن فشله أصبح مسئولية الجامعة العربية، على رغم محاولات أمينها العام عمرو موسى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، عبر تحركات وزيارات ومبادرات تصطدم في النهاية بالواقع المر... وبحقيقة أن الجامعة العربية ممثلة النظام العربي الرسمي، ما هي إلا انعكاس لإرادة الحكومات الأعضاء سلبا أو إيجابا!
وعلى رغم أننا من بين من مازالوا يتمسكون بالأمل في إحياء العمل العربي المشترك، ونجاح عملية نقل دم لشرايين الجامعة العربية، فإن تيارات عاتية في السياسة العربية، أصبحت تنادي علنا بدفن الميت ونفض اليد من المنظومة العربية؛ لتمهيد الطريق أمام منظومة إقليمية جديدة... تحتوي «إسرائيل» بفرمان أميركي!
في مناخ قاتم وبائس، تنعقد القمة العربية القادمة في الرياض، وأمامها جدول أعمال، كالعادة شديد الازدحام، ولكنها - كما هو واضح - ستركز على الملفات الأسخن المعبأة بالألغام المتفجرة، وهي خمسة ملفات ألغام، تمثل الأزمة العراقية، والأزمة الفلسطينية، والأزمة اللبنانية، والأزمة السودانية، والأزمة الصومالية.
والملاحظة أولا أن هذه الملفات هي الوحيدة على خريطة العالم، التي تجري فيها الدماء مدرارا، والتي تُستخدم فيها كل أنواع الأسلحة الفتاكة، بعد أن هدأت ميادين القتال الأخرى في إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية... العرب أصبحوا وحدهم الآن في نظر العالم، القتلة والمقتولين، المجرمين والضحايا، الإرهابيين وضحايا الإرهابيين... فهل هذا كله مجرد مصادفة؟
أما ثانيا فإن هذه الملفات الخمسة عربية الشكل والمضمون، ولكنها كلها في أيدٍ غير عربية، تديرها وتحركها وتوجهها، الأيادي الأجنبية، وخصوصا الأميركية والأوروبية... والإسرائيلية بالضرورة... للأسف ليست للعرب قدرة وربما رغبة في التعامل مع هذه الأزمات بصورة جدية وصادقة، تهربا من أعبائها ورعبا من تداعياتها ورهبة من الخروج على النص، الذي تضعه التدخلات الأجنبية وتشرف على تنفيذه بكل الدقة!
ولم يكن هذا إلا فشلا ذريعا للنظام العربي الرسمي، والقادة الذين سلّمنا لهم بأريحية وتسامح كل مقاليد الأمور، باعتبارهم أهل الحل والعقد، فإذا بهم يدفعوننا دفعا إلى المنزلق الخطير الذي نعانيه ونكابد مآسيه، وإذا بهم مازالوا يجتمعون ويتباوسون ثم ينفضون ببيان نكاد نحفظ كلماته من كثرة التكرار الممل، ليسرع كل منهم باستقلال طائرته الفخيمة عائدا... أو هاربا من مواجهة الحقائق، ومكاشفة الشعوب بالوقائع.
الملف العراقي تديره أميركا، مستعينة ببريطانيا و «إسرائيل»، والملف الفلسطيني تديره «إسرائيل» مستعينة بأميركا وأوروبا، والملف اللبناني تديره أميركا مستعينة بفرنسا و «إسرائيل»، والملف السوداني تديره أميركا وأوروبا مستعينة بالاتحاد الإفريقي، وبالحال نفسها مع الملف الصومالي.
هكذا ندرك أن الأيدي الأجنبية انتزعت الملفات الخمسة الساخنة من اليد العربية، لتديره وفق مصالحها، بينما اليد العربية هذه تراخت وتهاونت وسلمت بكل كرم، من دون إدراك لخطورة ذلك كله على ما يسمى الأمن القومي العربي، الذي أصبح موضع تهكم وسخرية المطبّعين والمتأمركين!
ولم يكن مفاجئا أن تعمل السياسة الأميركية مثلا على تهميش وعزل كل الأدوار العربية المؤثرة، في العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال، ويقبل النظام العربي الرسمي هذا العزل والتهميش بالاستسلام بينما تنفتح الأدوار المؤثرة لدول ومنظمات إقليمية ودولية أخرى، مثل إيران وتركيا في الأزمة العراقية، والاتحاد الأوروبي في الصراع العربي الفلسطيني - الإسرائيلي والأزمة اللبنانية، ثم الاتحاد الإفريقي المدجن في الأزمتين السودانية والصومالية!
نعم، قامت بعض الدول العربية بجهود سياسية وإعلامية في هذه الأزمة أو تلك، ونعم قدم أمين عام الجامعة العربية مبادرات هنا وهناك، كما فعل في لبنان، وفي عقد مؤتمر المصالحة العراقية بمقر الجامعة، ولكنها جهود تبعثرت سريعا، ومبادرات أجهضت قبل أن تنضج، وظللنا نحضر العرض المقام على مسرحنا الدامي، مثل شهود الزور... نصفق ثم نسترخي فوق الكراسي الملغومة!
فهل تملك القمة العربية شجاعة الاعتراف؟ ثم هل تستطيع تغيير هذه الأوضاع واستعادة الملفات المفقودة والأدوار المسروقة؛
لتمارس دورها الحقيقي في إقرار الأمن وفك الاشتباكات وحل النزاعات، أم أن الإرادة السياسية المستقلة غائبة ومغيبة، مرعوبة خائفة من ثقل الضغوط الأميركية، التي باتت جيوشها تحتل أرضنا وبحرنا وجونا؟
تساورني ظنون كثيرة عن التحركات والملابسات المريبة، التي تحيط بانعقاد القمة العربية القادمة. ظنون تسندها وقائع وحقائق متداولة، تبدأ من أن ضغوطا أميركية وأوروبية وإسرائيلية تمارس بقوة، على الحكومات العربية لتحقيق هدفين مهمين عاجلين:
أولا، أن تتبنى القمة العربية تعديلا واضحا في المبادرة العربية التي طرحها العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز في قمة بيروت العام 2002، وتبنتها كل الدول العربية وقوامها إقامة علاقات طبيعية مع «إسرائيل» بما في ذلك الاعتراف الرسمي طبعا، مقابل جلاء «إسرائيل» عن الأراضي العربية المحتلة منذ عدوان 1967 وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وضمان حق العودة للاجئين.
أما المطلب الأميركي - الإسرائيلي فهو تعديل شرطي العودة إلى حدود 67، وعودة اللاجئين، فهل تستطيع أو تملك القمة العربية ذلك؟
ثانيا، أن تتبنى القمة العربية موقفا عربيا موحدا في مواجهة الأزمة الإيرانية التي ترى فيها السياسة الأميركية خطرا داهما على مصالحها الحيوية في المنطقة، وخصوصا في العراق والخليج الذي يصدر للعالم 16 مليون برميل نفط، تخرج منه يوميا عبر مضيق هرمز الذي يمكن لإيران أن تتحكم فيه وتغلقه!
باسم الأمن الاستراتيجي للخليج وتخويفا من القدرات النووية الإيرانية، تلعب السياسة الأميركية على وتر الهواجس الأمنية الخليجية من توسع النفوذ الإيراني وقدراته على زعزعة الاستقرار في المنقطة، ليس فقط بالأساليب العسكرية المباشرة، ولكن أيضا باستغلال الصراع الطائفي السني - الشيعي، الذي انفلتت شرارته من العراق ولم تستطع 22 دولة عربية و57 دولة إسلامية عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي كبح جماحه ولا تصور خطورة تداعياته المتزايدة على وقع التحريض الأميركي الغربي الصهيوني!
نتمنى ونريد من القمة العربية معالجة الأزمات الساخنة بروح المسئولية القومية المدركة لطبيعة المخاطر الراهنة والقادمة... وتريد أميركا من القمة أن تجري في ركابها وتتبنى مطالبها وتخضع إلى إرادتها وتنفذ حلولها في كل هذه الملفات.
إن فعلت القمة ما نريده ونتمناه، حازت ثقة شعوبها، ونالت غضب أميركا وعقابها... وإن فعلت القمة ما تريده أميركا، فقدت ثقتنا وحازت الرضا السامي الأميركي.
ومن هنا تكمن أزمة القمة ومسئولية قادتها في مواجهة الألغام المتفجرة، ولنا عودة بإذن الله.
خير الكلام: يقول أبوالقاسم الشابي:
لك الويل يا صرحَ المظالم من غد
إذا نهض المستضعفون وصمموا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1650 - الثلثاء 13 مارس 2007م الموافق 23 صفر 1428هـ