وظيفة المفتي من الوظائف المستحدثة في الدولة الإسلامية - كما أعلم - فهي لم تكن موجودة في القرون الأولى وإنما كان يمارسها القادرون عليها والذين تثق الأمة بصلاحيتهم وإخلاصهم وكانوا يقومون بها احتسابا من دون أجر، ومع أنها - كما قلت - لم تكن وظيفة رسمية في العصور الأولى إلا أن فقهاء المسلمين اهتموا كثيرا بالحديث عن الفتوى وعن المفتي وعن دورهما في المجتمع المسلم ومما قيل في تعريف المفتي «هو الفقيه الذي يبين حكم الله في الواقعة ولا يملك ذلك إلا المجتهد الذي خص باستنباط الأحكام الشرعية من مآخذها وفق القواعد الاجتهادية والبراهين الاستدلالية المقررة» أما ابن القيم فقال عن المفتين: المفتون هم فقهاء الإسلام الذين دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام والذين خصوا باستنباط الأحكام وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يحتذى الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب قال تعالى «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم»(النساء:59)، وقد بين الإمام الحسن البصري ومجاهد وغيرهما أن أولي الأمر الذين أوجب الله طاعتهم على العباد هم أهل العلم والفقه والرأي والدين .
ومع هذه الأهمية للمفتي في السياق الذي تحدث عنه ابن القيم وهو من علماء أهل السنة الكبار إلا أن كثيرا من كبار علماء الأمة كانوا يتحاشون قبول أي منصب ديني وكانوا يبتعدون عن كل المناصب التي تربطهم بعجلة السياسة سواء أكانت قضاء أم إفتاء أو ما شابهها وكان هذا الابتعاد خوفا من تعرضهم لأي نوع من الضغوط المؤثرة على مواقفهم الدينية وكانوا في بعض الأحيان يرون أن مجرد الاقتراب من مجالس الحكام والتردد عليها موضع ريبة وشبهة ما جعلهم يبالغون في الابتعاد عنها وتحمل كثير من المصائب في هذا السبيل وللحافظ بن عبد البر رأي في هذا الباب أورده في كتابه جامع بيان العلم وفضله يقول فيه: «وإذا حضر العالم عند السلطان غبا فيما فيه الحاجة وقال خيرا ونطق بعلم كان حسنا... ولكنها مجالس الفتنة فيها أغلب والسلامة فيها ترك ما فيها لأن مخالط السلطان لا يسلم من النفاق والإطراء في المدح وفي هذا فساد الدين وهلاك الأمة» .
هذا المعنى الذي أشار إليه ابن عبد البر لزمه جمع من علماء هذه الأمة الذين آثروا الابتعاد عن الحكام مهما بذلوا في هذا السبيل فقد عرض القضاء على الإمام أبي حنيفة فرفضه « فضرب على ذلك في عهد مروان بن محمد مئة وعشرة أسواط كل يوم عشرة أسواط وهو على امتناعه فلما رأى تصميمه على القضاء فرفض فسجنوه... وكان رحمه الله لا يقبل هدايا الحكام ولا يأخذ منهم مالا مهما كانت الأسباب تحرجا من أن نؤثر عليه هذه الأعطيات حتى وإن كان - رحمه الله - يعرف من نفسه الثبات إلا أن شدة خوفه من أي ذنب مهما صغر كان وراء هذا الموقف. لم يكن أبوحنيفة وحده الذي يعلن رأيه بصراحة مهما كانت النتائج فهذا الإمام مالك أنكر على أبي جعفر المنصور إكراهه للناس بالحلف بالطلاق عند أخذه البيعة منهم وأفتى - رحمة الله - ببطلان هذا الحلف لأنه بالإكراه وأن يمين المكره لا تلزمه وكانت نتيجة هذه الفتوى أن قام والي المدينة جعفر بن سلمان بضرب الإمام مالك بالسياط حتى كاد كتفه أن ينخلع ومع هذا فلم يتراجع عن فتواه. ومثله وقع للإمام أحمد بن حنبل الذي ابتلى بفتنة القول بخلق القرآن في خلافة المأمون والمعتصم والواثق وكاد يقتل أكثر من مرة ومع هذا فلم يوافق على القول بخلق القرآن ولو متأولا وقد حبس بسبب هذا الموقف وعانى كثيرا وهو ثابت على موقفه... لم تخل الأزمة بعد ذلك من علماء افداذ كانوا يعرفون حق الله عليهم كما كانوا يحترمون العلم الذي يحملونه رأينا بعض هؤلاء من شيوخ الأزهر عندما كان هذا المنصب بالانتخاب فكان شيخ الأزهر آنذاك قويا لا يخشى سطوة الحاكم إذا خالفه برأي أو قول ويحكي التاريخ أن شيخ الأزهر في عهد الخديوي إسماعيل أفتى ببطلان ما فعله الخديوي من أخذ الأوقاف وشرائها بمبالغ زهيدة ما أغضب الخديوي عليه لكن لم يأبه لهذا الغضب لأنه كان يخشى من غضب الله واستمر متمسكا بفتواه.
ودار الزمن دورته وأصبحت المناصب ذات الصلة بالدين وظائف رسمية وأصبح كثير من الناس يتنافسون عليها ومنها بطبيعة الحال منصب المفتي وهنا مكمن المشكلة ومن هنا كذلك بدأ الضعف يستشري في هذا المنصب إذ إن الحكام بدأوا بمحاولة التأثير على المفتين لإصدار فتاوى تتماشى مع رغباتهم حتى وإن كانت هذه الرغبات لا تتفق مع المصالح العامة للإسلام فالحاكم في مثل هذه الحالات لا يسأل المفتي عن حكم الشرع بل يطلب منه فتوى شرعية بترر موقفه وعمله فالحاكم هو الذي يفصل الفتوى وليس على المفتي إلا العمل بمهارة للبحث عن النصوص أو تأويلاتها ولي أعناقها ليقدم للحاكم ما يطلبه ويذكر لنا التاريخ أن سلطان الدولة العثمانية عندما وقع معاهدة أدرنه والتي اعترف فيها بحق اليونان في الاستقلال عن الدولة العثمانية العام 1839 رأى السلطان أن يحصل على فتوى تجيز له التنازل عن بعض أجزاء الدولة الإسلامية فاستجاب المفتي لطلب السلطان مع أن الأولى به أن يطالب السلطان بالدفاع عن الدولة الإسلامية. ولعلنا نعرف كذلك أن السلطان عبدالحميد الثاني خلع بفتوى شرعية من المفتي محمد ضياء الدين أفندي بالتواطؤ مع القوى الماسونية والعلمانية ذات النفوذ في تركيا آنذاك وذلك بعد رفض السلطان السماح لليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين. ثم انفرط العقد بعد ذلك بصورة أوسع وأشمل فرأينا أحد المفتين يحلل الربا تحت مسميات أخرى بعد أن كان قبل ذلك يحرم مثل هذا النوع من التعامل بل إنه لم يكتف بهذا الصنيع بل ألزم غيره ممن يعملون تحت يده بمثل هذه الفتوى الشاذة، كما رأينا البعض الآخر يحرمون العمليات الاستشهادية ضد اليهود المغتصبين للبلاد الإسلامية بعد أن كانوا يحللوها ثم عادوا مرة أخرى للقول بحلها بعد أن اختلفت الظروف السياسية وكأن هذه الظروف هي التي تملي عليهم نوعية الفتوى التي يصدرونها.
ومن طرائف هذا النوع أن نحو مئتين من علماء الشريعة في بلد عربي أفتوا بتحريم التعاون مع أميركا و»إسرائيل» في عدوانها على العراق أو فلسطين أو أي بلد آخر بما في ذلك توفير أي نوع من التسهيلات باستخدام الأرض أو الأجواء أو المياه واعتبار ذلك نوعا من الخيانة لله ورسوله وللمؤمنين فكان تعليق الحكومة على هذه الفتوى بأنها تجاوزت كل الخطوط الحمراء وأنها خروج على الحكومة. فهل الفتوى لها خطوط حمراء أو خضراء أم أنه تدخل في الفتوى ولا شيء آخر، ومن هذا النوع من الفتاوى تحريم النظر إلى قناة الجزيرة بحجة أنها تسبب الفتنة وتدعوا إلى التفرقة مع أن منهج هذه القناة لم يتغير منذ افتتاحها وحتى الآن فما الذي جد فيها كي يتبرع أحدهم بمثل هذه الفتوى وكيف يمكن تفسيرها ولماذا الآن بالذات؟ ثم هل يستحق الأمر كله إصدار فتوى بالنظر أو عدم النظر إلى قناة فضائية ولماذا يحشر بعض الناس أنفهم في مثل هذه القضايا التي لا تليق بمكانتهم؟! أعتقد أنه تكون لدى الناس حنكة يستطيعون بواسطتها التمييز بين الغث والسمين والنافع والضار ولا أعتقد أن أي فتوى يمكن أن يكون لها تأثير في هذا الموضوع بل إن هذه الفتوى قد تجعل الآخرين يزيدون تعلقا بهذه القناة على مبدأ كل ممنوع مرغوب، لماذا لا نترك هذه المسألة لرجال الإعلام وقد قالوا فيها كلمتهم كما أن وزراء الإعلام في دول الخليج حددوا موقفهم منها فلماذا لا تترك الأمور لأصحابها وينأى المفتون بأنفسهم عن مثل هذه المسائل التي لا تخدم بشيء بل قد تسيء إليهم ومثل ذلك أيضا القول إن خطب الجمعة يجب أن يكون محور الحديث فيها مرحلة ما بعد الموت وترك الحديث عن الآخرين وما يقومون به أحيانا من أفعال تنافي الإسلام وتخالفه ولست أدري من أين جاءوا بمثل هذه الأقوال التي لا يقرها عقل ولا شرع وكأن الإسلام محصور في الآخرة فقط أما الدنيا فلها أناس آخرون وكأنهم بهذه الفتوى يفصلون بين الدين والدنيا ويجعلون الإسلام رهبانية على طريقة النصارى وهم يدركون أنهم مخطئون وأن الإسلام لا يفرق بين الدين والدنيا.
أقول أمثال هذه الفتاوى الخاضعة لسلطان السياسة بدأنا نراها في طول العالم الإسلامي وعرضه والسؤال الآن: لمصلحة من يتم مثل هذا العمل؟ هل هو لمصلحة الحاكم أم لمصلحة الأمة؟ هل لمصلحة هؤلاء المفتين أم لمصلحة الأمة؟ أقولها جازما هذا النوع من الفتاوى ليس لمصلحة أحد من هؤلاء بل هو ضد مصالحهم جميعا... من مصلحة الحاكم أن يكون منصب الإفتاء محترما ذا هيبة ومكانة في نفوس عامة الناس كي يسمعوا ويطيعوا وتسير الأمور بسلامة وسلاسة ولكن عندما يدرك الناس أن هناك أي تأثير للحاكم على الفتاوى فلن يستمعوا إليها ولن يحترموا قائليها وبالتالي فأي قيمة ستكون لها؟ والأخطر من ذلك كله أن عامة الناس سيتجهون إلى أخذ فتاواهم من أناس آخرين قد لا يكونون مؤهلين للفتوى وهنا مكمن الخطر في حياة الأمة... وانظروا إن شئتم في طول العالم الإسلامي وعرضه لتعرفوا تأثير هذه الظاهرة، ستجدونها واضحة في كثرة الجماعات الإسلامية واختلافاتها وأحكام بعضها على الآخر وأحكامها على المجتمعات الإسلامية وقيادتها وكيفية التعامل معها. لماذا حصل هذا كله في مجتمع مسلم يفترض فيه أن يكون موحد الاتجاهات أو قريبا بعضه من بعضه الآخر لأنه يدين بدين واحد؟! الإجابة عند المفتين غير الرسميين الذين قادوه إلى مثل هذه التصرفات ولكن متى؟! بعد أن انخفضت هيبة ومكانة المفتين الرسميين فأصبحت كلمتهم غير مسموعة عند معظم الناس. من هنا فإن ابتعاد أصحاب المناصب الدينية عن الوقوع تحت تأثير السلطة أمر في غاية الأهمية وإن إدارك أصحاب السلطة لمثل هذه المسألة أمر لابد منه إذا أرادوا للمؤسسات الدينية أن تستمر قوية محترمة وإذا أرادوا لهذه المؤسسات أن تقوي مكانتهم وتقف إلى جانبهم...
أعتقد أن منصب المفتي أو ما شابهه من المناصب إذا كانت لها مسميات أخرى في عالمنا الإسلامي يجب أن تكون بالانتخاب ومن هيئة علمية محايدة يكون لها حق انتخابه وكذلك حق عزله إذا رأت منه ما يستحق ذلك وبهذه الطريقة تعود لهذا المنصب مكانته ويعود الناس مرة أخرى للاستماع إلى ما يصدر من صاحبه وأخذه بالقبول والاحترام فهل يمكن أن يفكر بهذه المسألة بهذه لطريقة أم تترك للظروف؟ لست أدري.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1649 - الإثنين 12 مارس 2007م الموافق 22 صفر 1428هـ