يصل هذا المقال إلى الناس والأزمة السياسية الكويتية في وسط تفاعلاتها، وقد خاض بعض الإخوة في المنتديات أو على صفحات الصحف في أسباب الأزمة الشاخصة لتعقيداتها وتداعياتها سلبا أو إيجابا، وفصّلوا فيها بحسب اجتهادات مختلفة، وتناقلتها منتديات الكويت الشعبية (الدواوين) كما وسائل الإعلام الخارجية.
وإذا كانت مسئولية الحكومة - أية حكومة - والمجلس المنتخب - أي مجلس منتخب - الحفاظ على مصالح الناس وتسيير أعمالهم بسهولة ويسر في إطار من تأكيد العدل والمساواة والمواطنة بهدف العيش الكريم والآمن في جو يلازم الحرية بالكرامة بتعاون معقول، فإن مؤسساتنا السياسية لم تستطع حتى تاريخه جعل المسيرة ليست منعدمة المطبات الكبرى فقط، بل سائرة من أزمة إلى أخرى، في نهايتها تُعطل المصالح المرسلة للناس، وتتضارب الاجتهادات إلى حد التناقض؛ ما يعطِّل العمل العام ويُقعِدُه عن تحقيق أهدافه، وهي أهداف تتصل بمعيشة الناس وبمستقبلهم.
التشابك غير الصحي بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والرقابية - بصرف النظر عمن هو المقصر أو المسبب لهذا التشابك - تمخضت عنه في النهاية شكوكٌ أدت بعد تراكمها إلى انعدام التناغم الآمن والمحقق للمصالح العامة للناس في الكويت. والأمثلة أكثر مما تُعدُّ في تاريخنا السياسي القريب، حتى أصبحت «الأزمة» القاعدةَ وغيابها هو الاستثناء.
قيل إن الأزمة في السنوات السابقة سببها «صغر الدائرة الانتخابية وضيقها» ووقوع كلٍّ من النائب والوزير تحت ضغط المصالح الآنية، فكان التفكير في اتجاهين، الأول: توسيع القاعدة الانتخابية، وهذا تم على الورق، ولكن لم يفعَّل حتى اليوم، بمعنى أن أمراض الدائرة الصغيرة، مازالت قائمة تنفث كل سلبياته التي خبرناها في ربع القرن الأخير في ممارسات اليوم، وقيل أيضا إن لا وجود لحكومة في ظل ممارسة ديمقراطية حديثة، من دون غالبية تسندها في التجاذب السياسي الذي هو لُحمة العمل العام، الذي لا يحتاج فقط إلى أفعال صافية ومحققة للمصالح العامة، ولكن أيضا إلى محامين كفوئين وقادرين على «تسويق» تلك الأفعال. هذا أمر لابد من مواجهته بالتفكير الجاد فيما لا تستقيم الديمقراطية الحديثة دونه، وهو تفعيل «ثانيا» دور «الأحزاب» التي هي الآن تابو لا يجري الحديث عنها علنا إلا في القليل.
ولست بغافل عما يعنيه المفهوم من سلبية لدى قطاع واسع من الكويتيين، إلا أن التظاهر بأن المحتم غير مطروح والموجود غير مرئي، هو عمى سياسي أكثر منه دراية سياسية. فالكتل التي تتشكل في المجلس اليوم، وقد نضجت إلى حد ما في الممارسات أخيرا، هي «أحزاب» بأسماء أخرى، إلا أنها «أحزاب» لا يربطها نسيج قانوني حتى عُرفي منضبط يوجه المنتمين إليها إلى قواعد عامة في العمل التشريعي، فلدينا في حقيقة الأمر الاسوئيين كتل متغيرة ومصالح فئوية تتناقض لا لأسباب سياسية واضحة المعالم، بل لأسباب شخصية وفي أكثرها - تصورا لما يعتقد البعض أن الشارع يريده أو تحقيق مصالح ضيقة - المثال الوافي لذلك في محاولة طرح الثقة عن وزير الصحة، الذي كانت بعض الكتل مستقرة ومتوافقة على سيناريو معين، ووجدت أنها ربما تفقد ثقة «الشارع» لو تأخرت عن الموافقة على مشروع طرح الثقة عن الوزير، وكأن الأمر مزايدة، فتقدمت صفوف «المزايدة» حتى لا تفوتها المكاسب الشعبية.
مثلُ هذه المناورة السياسية التي تُفهم في حدود مصالح انتخابية، ولكنها لا تُفهم في إطار المصالح العامة للناس ومن أهمها الالتزام بالعمل السياسي. ومثالٌ آخرُ أيضا قريب، وهو توزير من هم قريبون من الكتل السياسية، على أساس قدرتهم على التعاون مع تلك الكتل، إلا أن الكتل ترى أن تستفيد من هذا التوزير سرا وتُنكره علنا، وهي ممارسة خاصة بالكويت لا تكرارَ لها، فالكتل البرلمانية عادة تنسجم مع ممثلها أو تطلب تغييره، أما الممارسة في الكويت فإنها الفعل ونقيضه في الوقت نفسه. وبسبب حساسية التسمية (الأحزاب) يمكن الاستعاضة عن مفهوم الأحزاب - التي هي كائنات تتخلق ولكن بشكل هلامي كثير التغير في الكويت اليوم - بلوائح انتخابية لا تكون فقط «مُعلمة» لأفرادها وانتقائية في الوقت نفسه، بل ملزمة لمن ينظم إليها وحاكمة لتصرفاته السياسية، على قواعد من البرامج السياسية المعروفة والمقررة سلفا له وللعامة من الناس.
الممارسة المُنتقدة التي أثبتت فشلها في الكويت وهي تزداد فشلا تلك القائمة على الاستعاضة عن التلازم الملزم حكما وقانونا في العمل السياسي ببرنامج وكتل سياسية، والاستعاضة عن ذلك بالشبكة الاجتماعية التقليدية، وهي الانتماء القبلي أو الطائفي أو أشباههما، وهي إن قدمت خدماتها في السابق من الزمن، فبالتأكيد لا تستطيع وغير قادرة على أن تقدم الكثير في فضاء التطور السياسي في الكويت والعالم. فحقوق الإنسان ليست حكرا على طائفة من الناس، والعدل ليس عنوانا لمجموعة من الشعب ومنتزعا من آخرين، كما أن السلم الأهلي يعني ترسيخ قاعدة المواطنة من جهة والكفاءة من جهة أخرى. فالمقلد لا يجب أن يكون مخلدا. تلك قاعدة اجتماعية تنطبق علينا كما انطبقت على آخرين. ما يحيط بالكويت ليس سهلا أو هينا، فهي تقع جغرافيا في قوس ملتهب تتصاعد فيه الأزمات وتتضاعف بمتوالية هندسية، كما أن المتغيرات الاقتصادية يمكن أن تتغير في غضون أشهر لا سنواتٍ، وقد قال ونستون تشرشل مرة: «إن أسبوعا في العمل السياسي فترة طويلة»، فما بالك وأنت تنظر إلى أزمة تكاد تتحول من مؤقتة إلى مزمنة؟
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1649 - الإثنين 12 مارس 2007م الموافق 22 صفر 1428هـ