في صباح مثل هذا اليوم من الأسبوع الماضي، كنت متحيّرا في حضور أيٍّ من فعاليتين تبدآن عند الساعة التاسعة، حتى وصلت «أكبر مجمّع إشارات ضوئية» (دوّار السلمانية سابقا): لقاء معهد التنمية السياسية لكتّاب الأعمدة، والملتقى الخليجي السابع للإعاقة. ولم أكن مكلّفا بتغطيتهما أصلا، إنما للأولى جانبٌ مهنيٌ أحرص عليه، وللثانية طابعٌ إنساني أعشقه. وأخيرا بدا من الأفضل قضاء ساعةٍ في اللقاء بفندق الخليج، ثم اللحاق بملتقى الإعاقة في فندق كراون بلازا.
جدول أعمال اللقاء على الورق كان جميلا، ولكن تسليم دفة الحوار لأحدهم فقط لأنه «أكبر الحاضرين سنّا»، أدّى إلى سوء استغلال الفرصة في نوعٍ من المهاترات وتصفية الحسابات وعرض العضلات، حتى ان أحدهم أستغلها فرصة ليستعرض بطولاته (المشكوك فيها أصلا) ضد الحكومة، ثم انقلب بعد دقيقتين ليبارك خطواتها ويسبّ المعارضة من «وفاق» و «وعد» وبقية اليسار!
تركُ الخيط و(المِشْبَل) لطرفٍ مشحونٍ ضد الصحافة، خطأٌ جسيمٌ ارتكبه مدير المعهد عبدالله الأشعل وأدّى إلى تعكير أجواء اللقاء، ما جعل المرء يندم على إضاعةِ ساعةٍ واحدةٍ من عمره بين أفرادٍ يطالبون جهارا نهارا بحبس الصحافيين «المختلفين»!
هناك عدة مآخذ «فكرية» على مدير الندوة، لن نتوقف عندها لئلا نُتّهم بالشخصنة، فـ «الجماعة» (ما يشدّون)، وكل انتقادٍ يعتبرونه شتما وسبّا ومسّا بذواتهم المقدّسة، بينما لهم الحق في شتم وانتقاص أكبر مرجعٍ ديني مستقل في العصر الحديث، واتهامه بأنه «جنرال أميركي»... فهذا لا يعتبرونه سبّا ولا قدحا ولا مسّا بكرامته أو كرامة الملايين ممن يحبونه ويقدّرونه في عموم العالم الإسلامي.
الجماعة أيضا في أول لقاءٍ معهم، تكتشف أنهم حسّاسون جدا، ونفسياتهم رقيقة جدا مثل زهور النرجس، فلا يتحمّلون أن ينتقدهم أحد، ومع ذلك لا تمنعهم رهافتهم عن المطالبة بقطع أرزاق ورؤوس من ينتقدهم! وبالمقابل يبيحون لأنفسهم أن يتّهموا 80 في المئة من الصحافيين بأنهم يهدّدون الأمن الوطني! والمضحك جدا أن معيار «تهديد الأمن الوطني» هو «ان صحيفتكم تمسني بسوء»... فـ «المسّ» بالذات المرهفة هو مربط التيس!
كانت هناك أفكارٌ خياليةٌ وغير منطقية، من قبيل المطالبة بعدم تسييس الصحافة، وأن لا يلتزم الصحافي بأي عقيدة أو ايدلوجية، مع ان صاحب هذه الفكرة كان يتفاخر لسنواتٍ بأنه صاحب عقيدة ليبرالية صلبة أثبتت التجارب انها «شلخة»! على ان الأنكى من ذلك كله هو تلك الروح الإقصائية العنيفة التي يتكشّفون عنها في لقاء مفتوح مع عشرين من الزملاء الصحافيين، فلا تمنعهم الكياسة من توجيه دعوةٍ مكشوفةٍ إلى قمع الصحافة وتكبيلها من جديد في عهد الانفتاح السياسي، ولا يتمالكون أنفسهم من إظهار الفرح بأية إجراءات تتخذ ضد الصحافيين. وقد أحسن رئيس تحرير الزميلة «الوقت» إبراهيم بشمي في دفاعه ضد هذه الموجة الرجعية العاتية، حين خاطب أحد هؤلاء بقوله: «لو أصبحتَ في يومٍ من الأيام وزير الإعلام أو قاضيا... فإننا سنُحبس 25 عاما»! (يعني حتى في زمن «أمن الدولة» ما صارت... فالصحافي كان ياكلها خمس سنوات على الأكثر)!
العقلية الإقصائية التي تطلّ برأسها بين الحين والآخر في مقالات وافتتاحيات هذه الأقلية المتسلّطة، تفوح منها رائحة الاستعلاء والغرور و «عقدة الفرعنة»، التي لا تتقبل بوجود «رأي آخر» على الإطلاق، ومن هنا ستكون نهايتها وسقوطها من ذاكرة الصحافة الوطنية، في عصر أصبحت فيه الكلمة للفضائيات والشبكة العنكبوتية العملاقة للمعلومات. صحافيون محنّطون أخطأ «معهد التنمية السياسية» في استخراجهم من مقابر القرون الوسطى، لينصّبوا أنفسهم أوصياء على الصحافة وقضاة في محاكم التفتيش الجديدة.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1649 - الإثنين 12 مارس 2007م الموافق 22 صفر 1428هـ