العدد 1648 - الأحد 11 مارس 2007م الموافق 21 صفر 1428هـ

محاكاة إيرانية... بين واجب المصدر وواجب التلقي

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ضمن البحث في مصادر الشرعية التي تأسّست عليها دعائم الحكم السياسي بعد الثورة الإسلامية في إيران يبقى الحديث عن الحلقة الأخرى المتمثلة في «محاكاة سلطة دينية» الرابط الميكانيكي بين واجب المصدر وواجب المتلقي... فهو يُشكّل أهم محور تستقيم عليه السياسة قبل الدين في الجمهورية الإسلامية، على رغم أن التعديل الذي جرى على الدستور في بدايات العام 1988 لم يفرض تلازم المرجعية مع القيادة (المُرشدية) كما كان مُتبعا خلال السنوات الثماني الأولى للثورة، وذلك لرفع الحرج أمام أي إجراء لتسنّم أحد قيادات الصف التالي من الزعامات الدينية أو حتى من أحد شخوص الدولة القائمة بعد استقالة الشيخ حسين علي منتظري. في الفترة التي أعقبت انتصار الثورة كانت التنظيرات الخاصة بشكل الحكم قد تبلورت أصلا منذ خمسة عشر عاما على يد الإمام الخميني، وكانت طيلة تلك الفترة حبيسة الكتب والتدوينات التي أُريد لها أن تكون كغيرها من النظريات الجديدة التي لا تصمد عادة أمام الموروث الديني الضارب في الفكر الشيعي... كان الاتجاه الفقهي الخميني في عمومه قد توصّل إلى قوة الحاكم وسلطته التي أكّد أنها لا تختص فقط بمل‏ء منطقة الفراغ، وإنما هي وكالة ذاتية له بصلاحيات واسعة، مع تأكيده على أن شَرطَي العلم والعدالة يجب أن يتوفرا في الولي الفقيه، لكي يُحيلانِ كفايةَ الولي إلى كفايةٍ ذاتية والضوابطُ إلى ضوابطَ داخلية، بالإضافة إلى مراقبة الجهة القضائية وأهل الحل والعقد له، بدلا من التعويل على كفايات وضوابط خارجية (علي فياض). ولأن الإمام الخميني كان فقيها ومرجعا دينيا كبيرا في الوسط الحوزوي فقد ضاعت أمام كاريزميته كل أوجه الاعتراضات التي قد يُثيرها فقهاء آخرون هم في الأصل إما تلاميذ له أو يصغرونه في الشأن الديني، لذلك فقد اعتُبرت السنوات العشر التي بها بقي فيها الإمام على رأس السلطة بمثابة المدماك العملي الذي أسّس إلى مشروعية المحاكاة بين قمة الهرم وقاعدته، بل إن الممارسة السياسية طيلة تلك السنوات دفعته لأن يستظهر المزيد من قراءات سلطة الواقع.

وكان هذا التمدد الصلاحياتي لسلطة المحاكاة في التعيين والإرغام يتطاوع في طوله وعرضه مع قوة الخمينية المتدفقة من أعلى النموذج حتى قاعه الملتهب والتي يبدو أنها تجاوزت عقد الكلاسيك الشيعي في تمرد صريح على الأنظمة والرؤى المُحنّطة القائمة على الاحتياط والعبادات المُجرّدة «ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخف بحكم اللَّه وعلينا ردَّ، والرَّادُّ علينا الرادٌّ على اللَّه وهو على حدّ الشرك باللَّه» الإمام الصادق (ع).

لقد تمّ استحضار فكرة أن الولي الفقيه وبحسب الفقه السياسي كما يرى المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي «غير مقيد بالأخذ بالأحكام الأولية والثّانوية، بل له حكم ولائي مستقل، في عرض الأحكام الأولية والثانوية ناشئ من الخلط بين الأحكام التشريعية والأحكام الإجرائية، كما أن الفقه السياسي لا يقول إن الحاكم ليس له حكم ولائي بل هو ثابت له، ولكنه ليس في عرضهما بل في طولهما، فمثلا أن الأحكام الأولية كوجوب الصلاة والزكاة والجهاد، والثّانوية كنفي الضرر والحرج ولزوم حفظ النظام، أحكام كلية إلهية، وقوانين عامّة شرعية، أمّا الحكم الولائي فهو حكم جزئي من ناحية الحاكم، يحصل من تطبيق القوانين الكلية الإلهية على مصاديقها الجزئية».

في الفترة التي أعقبت وفاة الإمام الخميني في يونيو/ حزيران من العام 1989 ومجيء آية الله السيدعلي خامنئي إلى مرشدية الثورة بدأت مرحلة جديدة من مراحل تثبيت السلطة وفق أجندة أكثر حذرا تمثّلت في تكريس البعد العملي الذي مثّله الإمام طيلة عشر سنوات، كما تمّ الاعتماد في ذلك على مراجع الدين الكبار في إيران كمحمد رضا الكلبيكاني وشهاب الدين المرعشي النجفي ومحمد علي الأراكي الذين يُشكّلون جزءا مهما من التشريبات الخاصة بشرعية السلطة منذ قيام الثورة الإسلامية، لذلك فقد استقامت محاكاة السلطة الدينية من قبل المرشد الجديد للثورة من دون إعاقات جدية أو تحديات حقيقية. في المقابل دشّن آية الله خامنئي مشروعه بالعمل على أكثر من اتجاه، الأول عبر الاحتفاظ بالصور المعنوية والدينية المرتبطة بشئون مرجعية واجب المصدر، والثاني عبر تجميع النفوذ الخاص بالقيادة ضمن فضاء السلطة العام والثالث العمل بأكثر من متغير عمودي أهمها إطلاق مشروع إصلاحي يستهدف تشذيب العمل الحوزوي لمدينتي قم ومشهد المُقدستين وباقي الحوزات الأخرى في المحافظات الإيرانية عبر تشجيع تدريس العلوم الإنسانية الحديثة، ونظّم من خلال جماعة المدرسين طرق استخدام الأدوات الكلاسيكية فنشأت لجان عقد الندوات والمناظرات العقائدية ومراكز إدارة المعاملات المالية في الخُمس والنذور والهبات، وهي إجراءات لم تكن لتُتخذ دون وجود ضوء أخضر من مراجع الدين الكبار بتلازم مع وجود إرادة تنفيذية قادرة على فرض خيارات جديدة... أيضا قام المرشد بعملية إنتاج جيل ثاني يخضع لأدبيات مُحددة ومطمئنة وإيصاله لمواقع متقدمة في السلطة بغية تنويع روافد القوة والنفوذ، وهي الأصل في علاقة الأحزاب ببعضها وعلاقتها أيضا مع مراكز القوى الأخرى في النظام، وفي الجانب الآخر وعلى المستوى الخارجي سعى إلى تدويل بعض المفاهيم الدينية الرتيبة وتبنّيها من جديد، فكان المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية الذي ينشط كأي حكومة إيرانية، كما أنه قام بتأسيس مراكز إسلامية في لندن وباريس وبلجيكا وجنوب شرق آسيا ووسط إفريقيا تُدار من قبل شخصيات ثقافية دينية تُتقن لغة العصر.

في النهاية، يبدو أن القدرة على تزييت ركنية محاكاة الدين في إيران هي الآن ضمن الآليات الموجبة لبقائها وديمومة عملها، وبقائها كأحد وسائل الشرعية.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 1648 - الأحد 11 مارس 2007م الموافق 21 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً