العدد 1648 - الأحد 11 مارس 2007م الموافق 21 صفر 1428هـ

جوزيف سماحة... بطاقة ولادة وهوية حياة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ودَّع لبنان في الأسبوع الماضي جوزيف سماحة. الكل يعرف هذا الاسم وخصوصا ذاك القطاع الذي يتعامل يوميا مع الحدث السياسي. فسماحة ينتمي إلى جيل ساهم في تكوين صورة ثقافية عن مرحلة زمنية لانزال نعيشها. وغياب جوزيف السريع أحدث صدمة نفسية غير متوقعة. فالكل حزن على رحيل هذا الكاتب الصحافي في لحظة صعبة. وبسبب هذا الغياب تراكض الأحبة والأصدقاء والإخوة والرفاق للمشاركة في ذاك اليوم الجامع لكل الاتجاهات والتيارات التي توافدت من مختلف المناطق والطوائف والمذاهب.

جوزيف ليس شخصا عابرا تنساه الناس بسرعة. فهو من رعيل أسس الكثير من المفردات والمنهجيات في كتابة المقال اليومي. وهو بهذا المعنى من رواد الصحافة المعاصرة إذ نجح في مزج التعليق على الحدث بقراءة معرفية تميزت بالمعلومات والمتابعة. فالمقال الذي كان يكتبه جوزيف ليس كلمات كتبت لتعبئة فراغ ورصف فقرات وإنما هو معرفة تراكمت عن متابعة واجتهاد في تفكيك الحدث وإعادة تركيبه وفق ضوابط سياسية وثوابت مبدئية. لذلك تميز مقاله بالقدرة على الاختراق ومخاطبة العقل ومقارعة الخصم من دون استفزازه.

توديع جوزيف تحول إلى حدث في فترة يشهد فيها لبنان تلك الانقسامات والاستقطابات والتجاذبات التي زعزعت التحالفات وأنهكت البلاد. وفي اليوم الذي جاء فيه الجمع من كل جهة ومكان التقى الخصوم في لحظة الفراق على القلق من الفراغ وتلك الخسارة التي يصعب تعويضها.

جوزيف في يومه الأخير كان ذاك الجسر الذي أعاد ربط الأحبة بعد ابتعاد فرضته مسافات الزمان والمكان. فهناك من حضر المناسبة بعد غياب عن المشهد العام بسبب تلك الحروب الدائمة التي عصفت بهذا البلد الصغير منذ أكثر من ثلاثة عقود. وهناك من التقى بأصحاب انقطعت الصلة بهم منذ عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة.

في هذا اليوم الحزين انكشفت أمام الحاضرين بطاقة هوية تعرف بسيرة جوزيف. إنه مسيحي (روم كاثوليك) ابن المهندس نصري سماحة، من مواليد الخنشارة في المتن الشمالي. وكل من يعرف جوزيف كان يملك عنه بطاقة هوية أخرى. إنه عروبي يساري مسلم فهو يوسف اليتيم الذي أشرفت والدته على تربيته في بينو عكار.

البطاقة الأولى صحيحة والثانية أيضا ولا تناقض بينهما. الأولى تتصل بالولادة وهي مكونة من مواد أولية وخامات موروثة ومتوارثة. والثانية تتصل بالحياة وهي مصنوعة من بيئات مختلفة تشكلت بفعل الممارسة والتعب والاجتهاد. والفارق بين البطاقتين أن الأولى جاءت بالطبيعة والثانية بالاختيار. وجوزيف قام خلال فترة حياته بإعادة هيكلة الموروث وترتيبه وجدولته وفق نظام أولويات. فهو لم يتهرب من الخامات الموروثة ولم يتنكر لها ولكنه عرف كيف يتعامل معها ويوظفها حتى تعطي قوتها الخاصة وتأثيرها المميز.

هناك فوارق معينة بين بطاقة الولادة والموت وهوية الحياة. والاختلاف ليس انقساما بل وحدة تجمع التعارضات. جوزيف ابن المهندس نصري لا يتعارض مع يوسف اليتيم الذي عاش الجوع وعانى من أمراض ناتجة عن سوء التغذية. وابن الخنشارة تلك البلدة التي تقع في قضاء المتن الشمالي الثري (قلب جبل لبنان ومركزه) لا يتعارض مع بينو تلك البلدة التي تقع في قضاء عكار الفقير (طرف شمال لبنان المهمش). والمسيحي الكاثوليكي نجح في تقليل تلك المسافات مع العروبي المسلم. فهذا الجمع بين المتفرقات أعطى نكهة خاصة لتلك المزاوجة بين بطاقة الولادة الموروثة وبطاقة الحياة المصنوعة بالوعي والتجاوز واختراق تلك الفجوات بين عالم وآخر. وهذا بالضبط ما نجح جوزيف/ يوسف، المسيحي/ المسلم، المتني/ العكاري، الغني/ الفقير، الثري/ اليتيم أن يوحده في شخصية تفردت بالكثير من الثنائيات والخصائص المميزة.

الإنسان/ الأمة

حياة الإنسان/ الفرد لا تختلف في نموها وتطورها واصطراعها عن حياة الجماعة/ الأمة. فالفرد يأتي دائما من موروث طبيعي يتألف من خامات ومواد أولية جاءت بحكم الولادة ومن دون خيار، وثم يتشكل في الحياة من بيئات ثقافية تساهم في إعادة تصنيعه وتكوينه من جديد. الأمة أيضا تمر بالمراحل نفسها، فهي تتكون دائما من موروثات طبيعية تتألف من خامات ومواد أولية جاءت من الماضي وانتقلت إلى الحاضر بحكم العادة وأحيانا من دون خيار، وثم تأخذ الجماعة بإعادة تشكيل نفسها في الحياة معتمدة على مصادر وروافد من بيئات مختلفة تساهم في إعادة تصنيع التوجهات وتكوينها من جديد.

إلا أن هناك مجموعة فوارق بين المرحلتين تتصل كلها بقانون الإرادة والوعي والاستعداد للتعلم وأخذ القرارات القاسية وتقبل الآخر والتعاون معه. ومن لا يملك تلك الخصائص الإضافية يبقى في مكانه وكما هو ومن دون تدرج أو امتزاج. وما يصيب الجماعة يصيب الفرد.

هناك الكثير من الأفراد يولدون في إطار طبيعي موروث ويعيشون حياتهم من دون تطور أو تعديل أو تصنيع أو إعادة هيكلة. ومثل هؤلاء الأفراد يفضلون العيش وفق قوانين الولادة وما أعطته الطبيعة من موروثات معدنية ومواد أولية وخامات جاءت بفعل العادة وما تفرضه من قوالب وأطر يصعب كسرها أو تجاوزها من دون وعي أو إرادة أو قرار ناجم عن اجتهاد خاص.

الجماعات تمر في الأطوار نفسها. فهناك جماعات تميل إلى قانون الطبيعة وتتردد في تجاوز عناصر الولادة والموروثات المعدنية والاجتماعية وتفضل ألا تتعدى تلك الخامات والمواد الأولية التي انتقلت إليها من السابق. وهناك جماعات تدمج ما بين الموروث الطبيعي والاجتماعي وتقوم بإعادة تصنيعه وتحديثه ليتأقلم مع قانون الحياة وما يتطلبه من إرادة واعية تدرك أهمية المزج بين الماضي والحاضر للبقاء في المستقبل.

الفرد أيضا كالجماعات. فهناك من يملك الاستعداد للتعلم والتحدي والاستيعاب والتجاوز من دون قطع أو تقطيع. وهناك من يتقاعس ويتردد ويخاف وينعزل ويكتفي بالموروث الطبيعي ولا يبذل أي جهد للتطور أو الانتقال من طور الخامات إلى مرحلة التصنيع التي تتطلب التعامل العقلاني الواعي مع المواد الأولية بغية تجهيزها وإعدادها لتكون حركة يومية تسد حاجات الإنسان ومتطلباته.

جوزيف الذي ودعه لبنان في الأسبوع الماضي هو من صنف الرجال الذي لم يتردد في التعامل الواقعي والعقلاني مع بطاقة الولادة. فالهوية التي اجتهد في تصنيعها وإعادة هيكلتها كانت نتاج تلك الإرادة الواعية التي تشكلت من الاستعداد للتعلم ومن ثم التأقلم مع الحياة وما تفرضه على الإنسان من سهر وتعب لتكوين ذلك الشخص القادر على الاستيعاب والتجاوز.

اليوم الأخير في حياة جوزيف سماحة كان مناسبة للجمع بين المتعارضات وتذكير الناس بأن قانون الحياة هو الأقوى في حال استطاع الفرد (والجماعة أيضا) الربط بين الموروث الطبيعي الذي يأتي الإنسان من دون خيار أو قرار منه وبين إعادة تصنيع المواد الخام وتشكيلها من جديد لتصبح قادرة على التحدي والتصدي والاستمرار. جوزيف في هذا المعنى هو نموذج اندمجت في شخصه بطاقة الولادة مع هوية الحياة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1648 - الأحد 11 مارس 2007م الموافق 21 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً