وكأن كل شيء «مجمد» بانتظار الإشارة من الخارج أو من «عالم الغيب» لينطلق الحل بالسياسة طبعا لأن الحياة العادية للناس مستمرة ولن تتوقف، ولم تتوقف يوما بانتظار الإشارة لا من الخارج ولا من «عالم الغيب» لأن الناس العاديين هم الواقعيون وهم العمليون وهم الأكثر عقلانية و «براغماتية» من كل البراغماتيين وفطاحل الواقعية والعقلانية السياسية من النخب الحاكمة والمعارضة معا!.
أقول هذا، وقد كنت في زيارة عمل لدولة خليجية متابعة و «مطلعة» وعريقة في عقلانيتها ولصيقة كما عرفتها في اهتماماتها بجاراتها ولاسيما «الأساسية» منها والتي هي محط أنظار صانعي الأخبار والقرار؛ أي العراق وإيران وكذلك في اهتمامنا واهتماماتها بقضايا وطنها الأكبر أي الوطن العربي، ولاسيما لبنان وفلسطين (وأعني هنا دولة الكويت) فإذا بي أكتشف من خلال مجموعة من الحوارات المعمقة نسبيا مع ثلة من المتخصصين والمتابعين للشأن العام، أن هناك «شحا» أو «شحة» في المعلومات وفي الرؤية ناهيك عن الاستشراق المستقبلي للوضع في تلك البلدان ما أدهشني فعلا! لا بل إنني عندما تعمقت في النقاش مع صديق عميق وعريق في مطالعاته في بعض القضايا المصيرية العالقة قال لي: «أنت تحكي عشرة بالشهر كما يقول المثل العراقي» أي أنك تتكلم في وادٍ وحال نخبتنا في وادٍ آخر. إنهم لا يعرفون بالضبط ما يجري من حولهم في العراق وإيران بدقة وبالوقائع حتى «تحاسبهم» على المواقف المفترض أن يتخذوها تجاه هذه القضية أو تلك!.
وأضاف الصحافي اللامع والسياسي الحيوي الحراك... «مطلوب منا أولا أن نعيد حال الإدراك المتبادل فيما بيننا ومعرفة بعضنا بعضا من جديد بعد الاهتزازات الكبرى التي حصلت ومن بعد نستطيع أن نتحاسب على مدى صحة أو دقة الموقف وصلاحه...!».
وفي جولة افق موسعة عملناها بعد ذلك توصلنا فعلا ومن خلال ما يكتب من كم هائل وما يقال من كم أكثر «هولا» على التلفزيونات والفضائيات عن القضايا الأساسية التي تتصدر الأخبار والاهتمامات الى أنه غالبية ما يقال وما يكتب لا يلامس جوهر الاشياء كثيرا أو أنه بعيد عن الحقائق وكنه الاشياء وتداخلاتها وتناقضاتها!
لذلك برأيي نحن ننتظر «الخارج» أو «المعجزة» التي تأتي بالحلول أو الحل طبعا ثمة اشياء لا نستطيع نحن الكتاب والصحافيين «الاقتراب» من «كنهها» أو «ملامستها» حتى بالقراءة والتحليل! فكيف بالمساعدة في صوغ القرار وصناعته! فهذا من «المعقولات» التي لا ينبغي لأمثالنا أن يمد أنفه لاشتمامه! فما بالك أن يمد أصبعه للتأشير في مجرياته!.
لكن حتى في القضايا المتاحة للعامة من الناس ثمة نقص شديد في المعلومات والحقائق والوقائع لمعرفة بعضنا بعضا ولذلك نحن بحاجة الى كشف حساب بالأرقام والحوادث والوقائع والأشياء كما هي! لا كما تصور وتعلب و «تنمط» لتعرض علنيا مكتوبة أو مقروءة عبر وكالة الانباء العالمية الشهيرة أو الفضائيات مهما اشتهرت في صدقيتها!
والموضوعات كثيرة ولا مجال للتوسع فيها كثيرا هنا ولكن نورد بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر فكم واحد من النخب «البلاغيين» في خطبهم أو مقالاتهم أو مداخلاتهم يعرفون أن المعركة الحقيقية عن الاختلاف الداخلي في فلسطين هي ليست بين «فتح» و«حماس» كما يتم تصويرها زورا وبهتانا لغاية هي في نفس يعقوب! والكلام في ذلك كثير! وكم منا يعرف أن المعركة الحقيقة عن الحل في لبنان هي ليست لها علاقة بالمحكمة ذات الطابع الدولي لا من قريب ولا من بعيد على رغم أهمية هذا الموضوع وضرورة فهمه وإدراكه جيدا! وكم منا يعرف أن المعركة في العراق لا تدور بين السنة والشيعة أو المشروع «الصفوي»! الإيراني والذي هو لم يعد إيرانيا أصلا بعد أن صار عراقيا أميركيا لا تقتصر على الشيعة وأن إيران قد غادرته منذ زمن بعيد وأن ثمة من ينتقدها الآن من القوميين الإيرانيين المتعصبين والعلمانيين العرب والليبراليين بأنها «نسخته» لصالح المشروع العربي القومي وأن «عصمتها» واعتصامها بحبله هو طوق النجاة لها حتى لا تضيع في متاهات العرب والصراع العربي الإسرائيلي!.
وأمور أخرى كثيرة هي أكثر تعقيدا وأكثر تفصيلا لا يسعنا المجال في شرحها والاسهاب في تناولها هنا من اللغط المتعمد والمقصود واللعب والاحتيال والكذب والخداع الغربي لاسيما جماعة المحافظين الجدد عن الملف النووي الإيراني والتعمد بإظهاره مرادفا للتسلح والقبيلة النووية وأسلحة الدمار الشامل وصولا الى مقولتي الإرهاب والعنف وكأننا نحن المحتلون ونحن الذين اغتصبنا أراضي الغير ونحن الذين نعطل التسويات ونحن الذين نعادي السلام ونكره الحياة ونحن الذين نتشبث بالمواقف المسبقة والمتعنتة ونكيل بمكيالين ولا نقبل بالحلول الوسط والمفاوضات وما علينا الا رمي أسلحتنا والتخلي عن مقاومتنا لمسار الحياة والتقدم والرقي! و«الاذعان» و «الامتثال» للقرارات الدولية التي لم نطبق ولا واحدا منها منذ العام 1948 حيث اغتصبنا أراضي المملكة العبرية السامية قادمين من جزر العراق فوق طائرتين على هذه المنطقة وهويتها العبرية - الغربية - الديمقراطية الليبرالية!
لكنها غلبة القوة والمال والتزوير والتحكم بوسائل الإعلام لهم من جهة و «استرخاؤنا» نحن العرب والمسلمين غير المبرر واستسلامنا لهذا المسار غير المنصف وغير العادل وكأنه القدر المحتوم! الذي لا خلاص منه الا باللجوء إليه!.
صحيح أن علينا أن نكون «عملاتيين» وعقلانيين وواقعيين وقد ينبغي أن نكون «براغماتيين» وما الى ذلك حتى نواكب التحولات والوقائع القاسية والمرة ونعترف ونقر بالخلل الاستراتيجي واختلال موازين القوى الدولية لغير صالحنا، ولكن لا يجوز أن يبنى كل ذلك على الجهل بالمعلومات الحقيقية وبالوقائع والحوادث والاعتماد الكلي على الغير حتى في معرفة أنفسنا، أليس هذا واقعا مرا بحاجة الى مراجعة جدية!.
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1647 - السبت 10 مارس 2007م الموافق 20 صفر 1428هـ