أكبر مصيبة يرتكبها من يلصق نفسه بركب الباحثين محاولة تزييف التاريخ، لأن التاريخ مكتوب، وكشف هذه المحاولات العبثية سهل يسير، وقد كان للكاتبة المعروفة لديكم الكثير من هذه المحاولات سابقا، ومنها ادعاؤها أن خروج مواكب العزاء في الشوارع واللطم على الصدور من مبتدعات الصفوية، وتم الرد عليها بأن أول من أخرج مواكب العزاء للشوارع وعطلوا الأسواق، هم أمراء بني بويه في بغداد، وذلك في القرن الرابع الهجري، والصفويون ظهروا بعدهم بستة قرون في القرن العاشر الهجري.
لأن المسألة مبيّتة لأهداف معيّنة، فما أن ينكشف أمر هؤلاء الكتّاب في قضية حتى يهجروا ذكرها ويتجهون لإثارة قضية أخرى. ومن المزاعم الفاضحة التي يسوقها رواد الفتنة الطائفية والتي كما يبدو راقت للكاتبة، فساقتها دون تردد، أن الصفويين هم الذين أدخلوا التشهد الثالث في الأذان، وفي هذا مغالطة مقصودة ولها هدف خطير ومحدد تدور حوله مزاعم المد الصفوي.
قبل كل شيء، الأذان ليس من العقائد كما تتوهم الكاتبة بقولها «فكان هذا أول خروج على الإجماع حول أصول الإسلام»، فأي أصول تتحدث عنها الكاتبة وأي خبط عشواء لا يفرّق بين الأصول وبين الفروع، ولا يدرك الفرق بين العقائد وبين الأحكام الشرعية. بينما تذهب بعض المذاهب الإسلامية إلى أنه ليس من الواجبات أصلا، ومذاهب أخرى أنه واجب على الكفاية، وبعضهم يرى أن إدخال المباح في الواجب لا بأس به بشرط عدم قصد أنه جزء منه. واتهام الصفويين لا يقتصر على مثل هذه الفرية، فالكثير من الممارسات الدينية - كأساليب العزاء السالف ذكرها - التي يقوم بها الشيعة في العصر الحاضر ينسبها هؤلاء للصفويين، وإحداها الإدعاء بأنهم أدخلوا التشهد لثالث في الأذان. ويدخل هذا الإدعاء في سياق الدفع باتجاه الفتنة الطائفية بين الشيعة والسنة... كيف؟
المسألة هكذا: بما أن الخطر الصفوي يجب مواجهته، ولأن الصفويين هم الذين أدخلوا الشهادة الثالثة، ولأن الشيعة في العصر الحاضر يرفعون هذه الشهادة في الأذان، وبالتالي فهم صفويون يجب مواجهتهم، وهذا هو الهدف المراد من تلفيق هذه التهمة للصفويين، ولا تنفصل عنهم تهمة الصفوية ماداموا مصرين على رفع هذه الشهادة في الأذان.
طبيعي من يحمل أهدافا خاصة لن تقف المسألة عند هذا الحد لديه، بل سيستمر هؤلاء في إثارة الكثير من المسائل، ومادام الدليل العلمي غير مطلوب، فإن نسبها بلا حياء للصفويين سيستمر أيضا، فذلك يحقق الهدف من فزّاعة «المد الصفوي»، متمثلا في محاصرة الشيعة في بلدانهم وتحريض الحكّام عليهم، وفصلهم عن توأمهم كعمق إستراتيجي متمثلا في أهل السنة الذين يشكلون الغالبية العظمى من المسلمين.
لست هنا لمناقشة قضية الشهادة الثالثة من حيث صحتها أو خطئها، ولكن لكشف الأراجيف وتزييف التاريخ الذي تمارسه هذه الثلة من الكتّاب، فهذه المسألة تناولتها كتب الشيعة الأقدمين قبل ظهور الصفويين بقرون عدّة، وكل الفقهاء تقريبا يرون أنها ليست جزءا من الأذان ولا الإقامة ولا يجوز الإتيان بها بنية أنها جزء منهما، وقد ذمّ الشيخ الصدوق في كتابه (من لا يحضره الفقيه) من يدخلها في الأذان والإقامة بنية الجزئية - كما يرى بعض العلماء - والصدوق متوفى في القرن الرابع الهجري (توفي 381 هـ)، وأجازها الشيخ الطوسي المتوفى سنة 460 هـ بقوله في كتابه المبسوط: «فأما قول (أشهد أن عليا أمير المؤمنين وآل محمّد خير البرية» على ما ورد في شواذ الأخبار فليس بمعمول عليه في الأذان ولو فعله الإنسان لم يأثم به)، و الرأي نفسه تبناه الشهيد الأول محمد بن مكي - المتوفى سنة 786 هـ، وهذا يعني أن هذه المسألة موجودة قبل ظهور الصفويين كما أسلفنا ذكره... فمن أين للكاتبة ومن نقلت عنهم الإدعاء بأن الصفويين هم الذين أدخلوا الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة؟
كل ما في الأمر أن فئة من المسلمين الضالين كانوا يختتمون الأذان وخطبة الجمعة بسب الإمام علي بن أبي طالب (ع)، فقامت فئة أخرى من المسلمين باستنكار هذا المنكر الفظيع بإضافة الشهادة الثالثة في الأذان الذي لا يعد واجبا شرعا وذلك علامة على أن الولي لا يُسب. ولما تولى الخلافة الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز (توفي سنة101هـ) رفع هذا السب وأمر باستبداله بالآية «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلكم تذكرون» ( النحل: 90)، فهو بذلك اعتبر السب بعد الخطبة منكرا، واستمر المسلمون قاطبة، شيعة وسنة على ما سنه هذا الخليفة العظيم إلى يومنا هذا.
دعاوى وأكاذيب بالجملة
حتى الصراع المسلح الذي نشب بين العثمانيين والصفويين، اعتبرته الكاتبة بداية تحول الخلاف المذهبي إلى صراع مسلح بين السنة والشيعة، وهذا ادعاء من يجهل التاريخ أو يتعمد تجاهله لأغراض خاصة، فيسعى لتوجيه كل الحوادث في المصب الذي يخدم غاياته. فالصراع دائما وأبدا ليس بين الشيعة والسنة، بل بين الحكّام، فكما تحارب العثمانيون والصفويون، كذلك حدث احتراب وقتال أشد منه بين العثمانيين وبين المماليك الذين سبقوهم في حكم البلاد العربية، وكلا الفئتين من المسلمين السنة، فضلا عن النزاعات الدموية بين العثمانيين أنفسهم، فقلما تجد خليفة لم يقتل أخاه أو أخوته خوفا منهم على الحكم، وبعضهم استعان بالأوروبيين في النزاع المسلح على السلطة والحكم ضد أخوتهم. ومثل هذه الصراعات، صراعات سياسية عادة ما يقوم الحكّام بتوظيف البعد الديني والمذهبي من أجل القضاء على معارضيهم، فهذا الإمام أبو حنيفة أحد أكبر أئمة المذاهب السنية الأربعة، وبسبب مواقفه، يتعرض للعذاب الشديد على أيدي بعض ولاة عصره، وهو الذي أيّد ثورة زيد بن علي واعتبر خروجه كخروج رسول الله (ص) يوم بدر.
ومع أن الحركة البعثية لا تكترث بكثير من تعاليم القرآن ولا تراه صالحا لكل زمان ومكان، ومع أنها على طرفي نقيض مع مشايخ التكفير الذين كفروا البعث والبعثيين منذ أن وطأت أقدام جيش الطاغية أراضي الكويت سنة 1990، إلا أن الفريقين التقيا هذه المرة حول دعاوى المد الصفوي والاستماتة في البرهنة على وجوده بكل السبل، فدعاوى تحريف القرآن الموجودة - على وهنها - في كتب الأقدمين من مختلف المذاهب الإسلامية، والتي يثيرها هؤلاء المشايخ من أجل النيل من الطرف الآخر على أساس طائفي، ولأن الكاتبة تعلم مدى حساسية هذا الموضوع الذي أجمع كل المسلمين في الوقت الحاضر على رفضه، لصقت تهمة تحريف القرآن بالصفوية، وذلك على إثر مؤلف (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) للحاج ميرزا حسين بن محمد النوري الطبرسي، وكأنما هذا الرجل شيخ مشايخ الصفوية المزعومة، بينما توفي سنة 1320 هـ، أي بعد انتهاء الدولة الصفوية بـ 150 عاما، وقد قوبل كتابه بالرفض من قبل كل علماء الشيعة وفي مقدمتهم مراجع الدين في إيران.
أما الإمام الخميني الذي افترت عليه هذه الكاتبة حين اعتبرته المحيي للصفوية، فقد ذمّ إدعاء الطبرسي ذما شديدا في بحث «حجة ظواهر الكتاب» في كتاب «كفاية الأصول»، فمما قاله رحمه الله في حاشية الكتاب: «وأزيدك توضيحا: أنه لو كان الأمر كما توهم صاحب فصل الخطاب الذي كان كتبه لا يفيد علما ولا عملا، وإنما هو إيراد روايات ضعاف أعرض عنها الأصحاب، وتنزه عنها أُولو الألباب من قدماء أصحابنا كالمحمدين الثلاثة المتقدمين رحمهم الله.
هذا حال كتب روايته غالبا كالمستدرك، ولا تسأل عن سائر كتبه المشحونة بالقصص والحكايات الغريبة التي غالبها أشبه بالهزل منه بالجد، وهو - رحمه الله - شخص صالح متتبع، إلا أن اشتيقاقه لجمع الضعاف والغرائب والعجائب وما لا يقبله العقل السليم والرأي المستقيم، أكثرُ من الكلام النافع، والعجب من معاصريه من أهل اليقظة! كيف ذهلوا وغفلوا حتى وقع ما وقع مما بكت عليه السماوات، وكادت تتدكدك على الأرض؟!..» (نقلا عن: منقد سليم)
ولكون حبل الكذب قصير، سرعان ما يحتاج الكاذب لعشرات الأكذوبات في محاولة التغطية على الكذبة الأولى، ومن ثم يجد نفسه في خضم كم هائل من التناقضات، وهذا ما وقع فيه هؤلاء الكتّاب ومنهم الكاتبة من المنذرين من «المد الصفوي»، فقبل فترة يدّعون بأن التشيع الصفوي يدفع الشيعة نحو الاستسلام للحكّام وعدم الثورة على ظلمهم، وتضرب الكاتبة مثلا بما يحدث في العراق غامزة لرفض السيد السيستاني المواجهة المسلحة مع الغزاة في الوقت الحالي، متناسية عن عمد ثورة العشرين في القرن الماضي والدور القيادي للفقهاء ذوي الأصول الفارسية، كالشيرازي والنائيني. ولكنها عندما تعرج للأنظمة العربية ولأن الهدف هنا تحريض هذه الأنظمة، ترجع كل حركة حتى لو كانت ردّات فعل طبيعية أو أي مطالبة بالحقوق قد تقود لحدوث شغب مهما كان مستوى ذلك، ولو حرق إطار سيارة، فتربطها بالمد الصفوي والذي يسعى من خلال الشيعة لتقويض هذه الأنظمة كما تحاول تسويقه، مع أن هذه الأنظمة في فكرها وفكر البعث أنظمة عميلة طالما تآمر عليها النظام البعثي في العراق.
وأكثر ما يثير السخرية والتهكم فيما خطه قلم الكاتبة، هو إرجاع الظلم الذي يقع على بعض الشعوب العربية بمختلف طوائفهم، ومنهم الشيعة وما يعيشونه من حال بائسة إلى أنه مؤامرة خمينية، أوجبت على الشيعة «العيش بمظاهر الفقر والاضطهاد المجتمعي» وطالبتهم بالابتعاد عن الثروة والغنى، فهذه - كما تزعم الكاتبة - تعتبر أهم آليات العقيدة الصفوية منذ الثورة الخمينية من أجل «نشر فكرة مظلومية الشيعة في الأرض العربية»، فأي سخرية تماثل هذه الثرثرة التي أطلقت عليها الكاتبة «آلية»؟
يرى كاتب هذه السطور، أن من أهداف فزّاعة المدّ الصفوي، هو عزل مناطق الممانعة، ومن ثم يسهل إضعافها وإنهاء ممانعتها. وموقف أهل السنة الداعم بشدّة لحزب الله خصوصا أثناء حرب تموز في العام الماضي، والذي شكّل سياجا حاميا كان مثار غيظ وحنق، ارتأت الدوائر المختصة أن تمزقه للأبد، خصوصا فيما يتعلق بالمواجهة المحتملة حاليا في ظل دق طبول الحرب المراد شنها على إيران، وبعض هؤلاء الكتاب يقومون بهذه الوظيفة سواء بوعي منهم أو بلا وعي.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1647 - السبت 10 مارس 2007م الموافق 20 صفر 1428هـ