بحلول اليوم العالمي للمرأة وما يدور من دعاوى ومطالبات بضرورة تحقيق التمكين الاقتصادي والسياسي للمرأة محليا، وبدعم من منظمات دولية مرموقة وبجهود كريمة من جهات رسمية موقرة، فإن الحديث عن مجريات منعطف الانتخابات البرلمانية الأخيرة ومشاركة المرأة فيها سواء بالترشح والانتخاب ونتائجها التي أفرزتها «الإرادة الشعبية» كما يجري ويقال، لا يمكن أن يعد أبدا حديثا عابرا.
لابد من إعادة وتدقيق النظر، وفتح جميع أبواب المصارحات أمام أسباب إخفاق عدد من المترشحات البارزات وذات الحضور القوي اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا في الوصول إلى التشكيلة البرلمانية السابقة أم الحالية، وذلك من دون الاكتفاء بجرجرة أسباب الوعي وأزمات الثقة وهواجس الريبة الضاربة بجذورها في المنبع الثقافي والحضاري لكياننا المشترك!
فحين الحديث عن العنف المجتمعي الممارس ضد المرأة، والذي يصبح بالتالي مادة محببة للإسهاب البلاغي الممل وللتجليات الملحمية اللغوية، فإنه لا يمكن أن يستثنى من هذه «الثيمة» مادة العنف الرمزي والخطابي الذي نالت وذاقت منها المرأة الناخبة والمترشحة الأمرين، وبالتالي لا يمكن تجاوز وحجب الممارسات الاقصائية الوثنية ووسائل التطاول القذرة التي تعرض لها نصف المجتمع ونصف الإنسان من خلال حملات التيارات الرجعية السياسية المنافسة لها، والتي ما كان لها أن تتجرأ على الإتيان بذلك لولا وجود الغطاء الواقي النافذ والسند الداعم ماديا وتنفيذيا ومؤسساتيا وشبكيا، ولولا «التبويق» والمقاولة الصحفية الرخيصة والمدفوعة الأجر ليكون الاستثناء قاعدة في هذا الخصوص، فجميع ما ذكر أعلاه يعد هو الآخر ركنا أساسيا وواقعيا لا يمكن أن يتم إغفاله حينما تطرق مثل تلك الأبواب!
والحق يقال إنه إذا ما وجدت النية الصادقة والعقلية الراجحة لتمكين المرأة اقتصاديا وسياسيا على الصعيد المحلي، لا تسويق تمكين المرأة سياسيا واقتصاديا في المنطقة والخارج، فإن الطريق لأجل تحقيق تلك الغاية السامية، ولأجل بلوغ ذلك المرتقى لابد أولا من تفعيل الدعوة لتأسيس دولة القانون والمؤسسات، وتكريس قيم وإجراءات تنظيمية تكفل بلوغ أقصى قدر من العدالة والمساواة بين جميع المواطنين بشتى أشكالها، وفتح أبواب المصارحة والشفافية بين الحكم وشعبه، وتوفير الفرص المتكافئة سياسيا واقتصاديا للجميع.
إن مجرد تحقق تلك القاعدة المؤسساتية والركيزة القيمية الصلبة التي يستند إليها بنيان الدولة المتطور إصلاحيا لكفيل بتمكين المرأة سياسيا واقتصاديا وحتى إنسانيا قبل أن يتم البناء على تلك القاعدة بتفعيل عمل وتحرك تنظيمي ومؤسساتي لتحقيق ذلك، واستحداث أنظمة وتشريعات سياسية واقتصادية تدعم مثل هذا التوجه، وتجعل من المرأة حاجة إنصاف ونصرة مواطنية، لا موضوعا للترويج السياسي والاقتصادي محليا وإقليميا ودوليا ما يجعلنا أضحوكة العالمين إذا ما تمت مطابقة الواقع المحلي المسوغ بالأنموذج الإقليمي والدولي المسوق!
واحتراما للتسويق والترويج وممتهنيه والقائمين عليه فلا يخفى عليهم أنه لأجل أن تكون هنالك سياسة ترويجية وتسويقية ناجحة لابد أن يكون على الأقل هنالك تحقيق لأكبر قدر نسبي ممكن من التطابق مع الواقع الفعلي، أو أن تكون على الأقل الصورة المروجة قابلة للالتئام والالتحام والترقيع مع واقعها، وإن شذت بينهم آفاق!
فلا أعتقد أن القضية تمسك بذيل منتهاها، والحديث عن تمكين المرأة يكتمل بمجرد تعيينات وظيفية لكوادر وعناصر نسائية دوليا أو خارجيا، أو أن يتم استحداث أساليب التلميع الاصطناعي، أو تكوين «بوكيه» نسائي شوروي متعدد إثنيا وثقافيا و «هوياتيا»، أو تزكية أنثوية لمنصب نائب عن الشعب تذر الرماد في عيون أم القضايا!
بل إن حلول القضية باعتقادي تكمن في جعلها ضمن أولى الأولويات الوطنية الرئيسية، والتي تقتضي أن يكون من خلالها تمكين المرأة بناء تقدميا اجتماعيا ومنتجا لتحقيق دولة القانون والمؤسسات وتأصيل مفاهيم المواطنة كهوية وحقوق مؤسسة، والانفتاح والشفافية بين الحكم ومواطنيه، لا أن يطغى فعل التسويق والترويج المتجاوز على لب القضية فيصيبها التفسخ والابتذال!
الأمر وبكل صراحة وجدية لا تهادن يتطلب إصلاح هيكلي متوازن للبيئة السياسية والاقتصادية الاجتماعية المعاصرة محليا، كما أنه يحتاج إلى حسم التناقض الكامن مضمونا والمخفي ظاهرا (Paradox) بين مرجعيتين قيميتان تسعيان وراء الهيمنة والتحكم.
المرجعية الأولى هي مرجعية رجعية (هداها الله) ترى في التطييف وتهيئة الاصطفافات الدينية الحاشدة والمتضادة وسيلة لسوس البلاد والعباد وللانطلاق بها نحو جهة غير معلومة، وكأنما هي غنيمة مسبية تنتظر التسعير والتسليع!
في حين تمتلك مرجعية قيمية أخرى عناصر الطموح الوطني الواعد والأفق التقدمي المرجو الذي ينتظر تحقق الإصلاح والحوار المفتوح بين الحكم ومواطنيه، وعلى هذه القيمة المرجعية الأخيرة نعول في إصلاح الواقع ومن ثم التقدم بإصلاح أوضاع المرأة، وتمكينها بالإرادة الشعبية والمجتمعية المتحررة من دعايات وسائل اللهاث الرجعي المتطاول نحو المناصب والكراسي الوظيفية المدفوعة الأجر، والذي ساهم للأسف وسيظل يساهم في تعكير المزاج والوعي المجتمعي العام وإفساد القيم، وإبعاد المرأة عن ممكناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية طالما غابت العدالة والمساواة والشفافية والقيم المؤسسية، التي لا يجدي نفعا إحياؤها بمؤتمرات واجتماعات «الماركتنغ» والعلاقات العامة، والإبداع والاتباع في مغازلة الخارج!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1646 - الجمعة 09 مارس 2007م الموافق 19 صفر 1428هـ