يدعي عالم نوبل للاقتصاد، دوغلاس سي. نورث، أن هناك ثلاثة أنواع من المجتمعات:
الأنظمة البدائية، وهي عصابات صغيرة من الصيادين، وهي غير ذي أهمية هنا.
الأنظمة المقيدة (المحدودة)، وهي مجتمعات تقدم حقوقا سياسية واقتصادية ذات معنى لنخبة ضيقة فقط.
الأنظمة المفتوحة، وهي ديمقراطيات رأسمالية تعطي الحقوق السياسية والاقتصادية لمعظم المواطنين.
ويحاول نورث أن يبرهن أن الأنظمة المقيدة هي «الحال الطبيعية»: فهي مستقرة، تقاوم التقدم الاقتصادي، ونادرا ما تنتقل وتتحول إلى الأنظمة المفتوحة.
بالنسبة إلى نورث، فإن هذه الأنواع الثلاثة من الأنظمة تشبه الحالات الكيماوية الثلاث، الصلبة والسائلة والغازية. أي أنها تتميز وتختلف بوضوح عن بعضها الآخر، والانتقال أو التحول بين أشكال النظام المختلفة يحدث تحت ظروف خاصة فقط.
إن أحد المفاهيم الرئيسية تنص على أنه يتوجب على حكام النظام المقيد أن يعملوا على الحد من حقوق الجماهير. فإذا نال الجميع حقوقهم الاقتصادية والسياسية، فلن يكون لدى الحكام أي عرض خاص يقدمونه لتهدئة المغتصبين المحتملين.
فمن غير الممكن شراء المنافسين السياسيين المحتملين واستمالتهم إلا في حال حصولهم على حقوق استثنائية حصرية. ولكن إعطاء حقوق حصرية لمجموعة واحدة يستلزم بالضرورة تقييد حقوق المجموعات الأخرى.
يقوم النظام المحدود بتوزيع السلطة بطريقة تحافظ على رضا المجموعات المنظمة التي من المحتمل أن تكون عنيفة. ولن يكون لأولئك خارج الائتلاف الحاكم أي سبيل للوصول إلى السلطة السياسية أو الفرص الاقتصادية، ومن مصلحة النخبة إبقاؤه على هذا النحو.
وعليه، فإن الانتقال من النظام المحدود إلى المفتوح في غاية الصعوبة والإشكالية. ومنذ الحرب العالمية الثانية لم تتمكن إلا ثماني دول من إجراء هذا التحول. وما يثير الاهتمام أن هذه التحولات غالبا ما تتطلب فترة قصيرة نسبيا من الزمن التاريخي - خمسين سنة أو أقل. وتشمل الأمثلة الحديثة على تايوان وكوريا الجنوبية وإيرلندا وإسبانيا.
هناك ثلاثة شروط ضرورية قبل التمكن من تصور الانتقال من نظام محدود إلى نظام مفتوح: (1) سيادة القانون للنخبة، (2) استمرارية حياة المؤسسات، و(3) السيطرة السياسية على القوات المسلحة.
لا يتم الوفاء بأول شرط في الدول التي يعتمد حتى النخبة فيها على العلاقات الشخصية من أجل الأمن والضمان الشخصي والاقتصادي. وبالنظر إلى روسيا اليوم، من الممكن تجريد حتى أعضاء حكومة القلة الثرية من حقوقهم بسرعة من قبل رئيس الدولة. إن استمرار حياة المؤسسات يعني وجود شركات أو مؤسسات أخرى يمكنها أن تعمر بعد زوال أعضائها الرئيسيين. وإذا لم يكن هناك مثل هذه المؤسسات، فهذا يعني أن كل مؤسسة تقوم على الولاء الشخصي.
تتطلب السيطرة السياسية للقوات العسكرية ألا تكون هناك أية مؤسسات مستقلة ذات قدرة على إثارة أعمال عنف واسعة النطاق. وبشكل واضح، لا يتمتع لبنان، إذ يعتبر حزب الله قوة عسكرية مستقلة، بالسيطرة السياسية للجيش. ومن ناحية أخرى، إذا سيطر فصيل واحد على الجيش، فهذا لا يتماشى مع تعريف السيطرة السياسية للجيش. بدلا من ذلك، فإن هذا النظام هو دكتاتورية عسكرية.
وهكذا، فإن معيار السيطرة السياسية للجيش صعب المنال. فهو يتطلب قوة عسكرية موحدة ومنفصلة عن كل فصيل، مع نزع سلاح كل الفصائل. لتحقيق هذه النتيجة، يجب أن يتفق تحالف متوازن من النخبة ذات النفوذ على مجموعة من القواعد والإجراءات التي تحكم استخدام القوات العسكرية، كما يجب أن يكون لهذا التحالف آليات لضمان اتباع هذه القواعد والإجراءات.
لم يكن العراق أبدا على «عتبة» أن يصبح نظاما مفتوحا. فالفصائل الرئيسية ليست على استعداد للتخلي عن أسلحتها والتنازل عن السلطة العسكرية لتحالف مركزي. لا توجد مؤسسات دائمة الحياة يمكنها أن تقدم التزامات تعاقدية. بل، ليست هناك رغبة بين الفصائل لمنح بعضها الآخر حقوقا في ظل سيادة القانون.
وعليه، أستطيع القول إنه ليس واردا أن تنجح الولايات المتحدة في تحقيق هدفها المتمثل في إقامة نظام مفتوح في العراق. وأفضل ما يمكن عمله هو إعادة العراق إلى حاله الطبيعية، أي إلى نظام محدود إذ تكون الحقوق والسلطة مقصورتين على بعض النخبة، الذين لا يخضعون للمنافسة الاقتصادية أو السياسية كما نعرفها.
يجب أن يكون لقادة كل الفصائل الرئيسية في العراق مصلحة من السلام من أجل نشوء وظهور نظام محدود. وبالنسبة إلى كل قائد، يعني هذا الحصول على حقوق اقتصادية وسياسية استثنائية لكي يشعر أن مخاسره تتعدى مكاسبه في حال اللجوء إلى العنف.
وإذا كنا نريد إقامة نظام محدود علينا أن نحدد الفصائل (الأحزاب) التي نريد لتكون في الائتلاف الحاكم، ويجب أن نعطي لكل منها شيئا ذا قيمة مقابل الحفاظ على السلام. وبعبارة أخرى «فجة» (إذا جاز التعبير)، يمكن تصور إعطاء كل حزب من الأحزاب الرئيسية في حكومة الائتلاف السيطرة على مجموعة معينة من آبار النفط. وإذا استمرت الأحزاب التي تتلقى مخصصات من آبار النفط في ممارسة العنف، عندها يتم تصنيفهم خارجين عن القانون وحرمانهم من الأمن الشخصي، مع مصادرة مواردهم النفطية وتوزيعها على الأحزاب الأخرى. وعلى رغم صعوبة ذلك، فإن التحدي يزداد ربما باعتقاد إيران أنه من مصلحتها زعزعة الاستقرار في العراق. يجب إقناع كل الفصائل والأحزاب بأن حجم الاستفادة التي سيحصلون عليها من المشاركة في التحالف أكبر من قيمة الدعم الذي قد تتلقاه من إيران.
*عالم ملحق مع معهد كيتو ومؤلف كتاب «أزمة الوفرة: إعادة التفكير في كيفية دفع كلف الرعاية الصحية»، والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 1646 - الجمعة 09 مارس 2007م الموافق 19 صفر 1428هـ