العدد 1645 - الخميس 08 مارس 2007م الموافق 18 صفر 1428هـ

الطريق إلى كربلاء

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كانت السيارة تقطع الطريق بين مطار بغداد وكربلاء، ظهيرة أحد أيام شهر صفر (العام 1973)، بعد أن حطت الطائرة القادمة من البحرين قبل ساعة أو أكثر، وخرج المسافرون باتجاه المدينة التي كتب لها أن تضم رفات كوكبةٍ من أعظم الشهداء في تاريخ الإسلام. كان الوقت صيفا، وكانت السيارات تتوقف في محطات الاستراحة لتتزوّد بالمؤونة والطعام، وتؤدي الصلوات في أوقاتها. كان في إحدى السيارات أبٌ كهلٌ شارف على الأربعين، يصطحب معه ابنه الذي لم يتجاوز الثانية عشرة، فقد أصرّ الأخير على اللحاق به على رغم ان امتحانات المنتصف للصف السادس الابتدائي تبدأ في تلك الأيام.

توقّفت السيارات في إحدى الاستراحات عند أذان الظهر، وأدّوا الصلاة ثم جلسوا في مطعمٍ شعبي يقدّم التمن والمرقة باللحم... وبعدها واصلوا السير.

لا يذكر الآن كم ساعة استمرت السيارة في طريقها في ذلك الجو الحار، ولكنه يذكر جيدا قوافل لا تنتهي من المشاة... رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا. كان بعضهم يحملون على رؤوسهم بعض الأمتعة، وبعضهم لا يحملون شيئا. الكلّ متجه نحو تلك القباب التي تحتضن تحت أجنحتها رفات الشهداء... كلهم قُتلوا، رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا. بعضهم قطع رأسه، وبعضهم رضّته حوافر الخيول. ولأن عددهم كان محدودا، ولأن الجيش الآخر كان بحرا متلاطما من الجنود، بنسبة واحد إلى ألف، فكان أن حدث نزاعٌ على من يفوز بشرف حمل الرؤوس ليحظى بالجائزة.

كان ينظر من داخل السيّارة فيرى قوافل المشاة التي لا تنقطع، يأتون رجالا وركبانا، إحياء لذكرى البطولة والفداء، ووفاء لمن ضحّى بالنفس من أجل رفع القيم والمبادئ الإنسانية السامية. وببراءة الطفولة خاطب أباه: لماذا لا نقف لنحمل بعضهم معنا في السيارة؟

السيارة لم تكن تتسع لأكثر من شخصين إضافيين، وهؤلاء بالآلاف... فأجابه أبوه: يا ولدي... حتى لو وقفنا لنقلهم، فإنهم لن يركبوا معنا.

لم يستوعب ذلك... فعاد يسأل ثانية: لماذا؟ فابتسم الأب وقال في حنان: إنهم يبتغون الأجر والثواب.

هكذا كانوا عبر القرون... الرجل الذي مات وحيدا محاصرا جائعا عطشانا، يأتيه الملايين من الأماكن القاصية تعبيرا عن الحب الذي لا تنطفئ شعلته.

الرجل الذي بقي على التراب ثلاثة أيام، يأتيه الزوّار شعثا غبرا، يقطعون الفيافي والقفار، يواسونه في غربته ويعيدون إحياء ذكرى محنته، ويتفاخرون برائحة الغبار الذي يعلق بملابسهم في طريقهم إليه، فما أحلى السرى نحو الأحبة... وأيّ أحبة؟ إنهم فلذات كبد محمد بن عبدالله (ص) وأحفاده وذريته التي خلّفها في أمته.

في مساء هذا اليوم... تكتظ طرقات كربلاء حتى لا تجد موطئا لقدم. تغصّ الفنادق والبيوت بآلاف الزائرين، وينام أضعاف أضعافهم في الطرقات، يفترشون الشوارع والأزقة الضيّقة في تلك المدينة التي تفوح بأريج البطولة والشهامة والفداء.

في أحقابٍ بعيدة... فرض عليهم بعض الجبابرة أن يدفعوا أتاوة على الزيارة، فأعطوها فرحين. وفي أحقابٍ أخرى فرض عليهم قطع الأكف لمن أراد زيارته، فأعطوا أكفهم طائعين. وفي فتراتٍ أخرى فُرض عليهم أن يقدموا قربانا من كل عشرة زائرين، فاحتسبوه شهيدا عند رب العالمين. قوافل لم توقفها الضرائب ولا قطع الأكف والرقاب... بل ظل صداها يتردد وتخفق به قلوبهم:

لو قطعوا أرجلنا واليدين... زحفا أتينا سيدي يا حسين.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1645 - الخميس 08 مارس 2007م الموافق 18 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً