تحتفل البحرين بأسبوع الشجرة وبمهرجان الحدائق السنوي وينظر القارئ من الخارج إلى البحرين فيراها خضراء تنبض بحب الخضرة والزرع، هذا فقط لأنه ينظر من الخارج!
نذهب في صباح الجمعة أنا وأديل (بريطانية الجنسية) وزينب إلى مزرعة سند أو الأرض التي كانت عليها المزرعة، ونبدأ في التقاط الصور ومعها نلتقط أنفاسنا. أديل عاشت في البحرين لمدة ستة عشر عاما، ألتقي معها كل جمعة نتحدث، نخطط ونعمل معا في جمعية أصدقاء البيئة.
زرنا سترة كثيرا حديثا وخاطبنا جهات عدة وكتبنا مقالات وشكاوى وتألمنا معا ووضعنا الخطط لنتعدى إحباطنا ونسعى لنغير الوضع المؤلم للبيئة.
زينب شابة من العكر تقول ما تفكر به وغالبا ما تقع في مآزق بسبب ذلك لكنها مستمرة في التعبير عن نفسها ومشاعرها وأفكارها ما جعلها قريبة مني، على رغم قلة تواصلنا منذ التقيتها للمرة الأولى في العكر خلال لقائي الكبير مع نساء العكر قبل أشهر.
بعثت لي رسالة على هاتفي النقال منذ أيام تقول: «إن إرادة الأرض للحياة أقوى من جبروت الإنسان وضغط آلته... إنه واقع الأرض المجرفة في سند... فما أن سقطت حبات المطر ولامست سطحها أعادت لها أمل الحياة».
اتصلت بها وقلت: «التاريخ يعيد نفسه عزيزتي». قالت: «كيف؟» قلت: «سمعت عن أرض «عذاري» ومسيرة الجمعة الخضراء العام 2003» قالت: «نعم». قلت: «تساقط بعض المطر في ديسمبر/ كانون الأول فإذا بمواطن من عذاري يتصل ويقول: ادعي الذين ادعوا أن الأرض تملحت وأنه لم يكن بها أشجار أو نخيل وأن كل ما تم عمله هو تنظيف الأرض... الأرض خضراء خولة خذي أطفال لجنة ريم إلى هناك ليتعلموا عن خصوبة أرض ديلمون».
وسألتها:»نذهب أنت وأنا وأديل هذه الجمعة لنرى الأرض ونتحدث عندها؟» قالت:»نعم نذهب فلدي الكثير مما أريد قوله».
ذهبنا والتقطنا من الصور الكثير وتحدثنا بين الخضرة التي تزين الأرض المفتوحة من دون أسوار أو حواجز وسرنا بين النبتات صامتين في كثير من الأوقات نستمع إلى أصوات الطيور الجميلة ونستمتع بمرآها وهي تطير وتحط بين النبتات التي استجابت لأمطار البحرين الأخيرة. وكثيرا ما كنت أكشف الحصى لأراقب الحشرات «صديقة المزارع» التي تسارع بالهرب عندما تنتبه لما عملته فأعيد لها غطاءها.
مزرعة سند كنت قد زرتها مع إحدى عضوات الجمعية قبل أكثر من سنة وشممنا مشمومها وسرنا بين لوزها ونخيلها وتأملنا خضراواتها بألوانها الزاهية، وأذكر أن أم عبدالله قالت لي حينها: هل يعقل أن يفكر أحد بتدمير هذه المزرعة؟ لا يمكن لإنسان لديه إحساس وخوف من الله أن يفكر في ذلك حتى. لم نرَ أم عبدالله منذ فترة طويلة لانشغالها بأمور حياتية عدة وأتساءل إن كانت قد عرفت عن المزرعة وهل صدقت الآن أنه لا توجد مزرعة واحدة آمنة في بلد المليون نخلة؟
تحدثت زينب معنا عن ذكرياتها مع المزرعة هي وأخوتها وأبناء عمومتها ولعبهم ومرحهم وشقاوتهم والمآزق التي كانوا يوقعون بها أنفسهم كي يصلوا لهذه المزرعة بالذات.
كنت استمع إليها واضحك وأوبخها بمرح على شقاوة الطفولة وأنا أفكر: هل يدرك الآباء والأمهات حجم الخسارة التي يتكبدها أبناؤهم حين يحرمون من الاستمتاع بالطبيعة وحين يكبرون وليس لديهم من الذكريات مع المزارع والبحر شيء؟ كيف يكونون بحرينيين بعد ذلك؟!
طلبت من زينب أن تدون ما قالته فهو جزء من تاريخ طفولة هذا البلد الطيب، وببعض كلمات زينب أختم مقال هذا الأسبوع.
حكاية مزرعة
«بالأمس عندما كنا أطفالا صغارا لم يستطع أحد من منعنا من الوصول لها (المزرعة المجرفة) واللعب بين أشجارها ونخيلها وكل نباتاتها التي كانت تنمو على سطحها، فقد كنا نغامر ونقطع مسافة طويلة جدا تفصل بينها وبين مزرعة عمي ولكننا لم نكن نهتم إذ كان هدفنا الوحيد هو الوصول إليها ونكون بين أحضانها متجاهلين بذلك كل تحذيرات ونصائح أهلنا؛ معللين السبب بأنه لا يمكننا أن نذهب لتلك المزرعة لأنها ليست ضمن حدود مزرعة عمي وأنه لا يجوز لنا تخطي حدود مزرعتنا. وكأننا كنا نعلم بما تخفيه الأيام وما يخفيه القدر لهذه المزرعة؛ لذلك كنا نريد أن نستمتع ونقضي أوقات ممتعة فيها ونبني لنا بعض الذكريات معها.
وكنا نصل ونتمتع بجمال مزرعة سند، بينما اليوم يمكنك أن تصل من دون تجاوزات أو تحذيرات كما لا يمكنك أن تختفي بين تلك الأشجار والنخيل الشامخة خوفا من أن تُمسك وتقع بين أيدي العاملين بالمزرعة ويأخذونك لأهلك ويخبروهم بأنك كنت بالمكان الخطأ والذي يتعدى حدود مزرعتك؟
فاليوم لا وجود للعاملين بالمزرعة ولا للأشجار ولا لبقعة الأرض الشاسعة الخضراء فقد تحولت تلك الأرض إلى صحراء؟ نعم لقد دمرت هذه المزرعة بكل وحشية وقد قتلت وحرقت كل نباتاتها وشجيراتها ونخيلها وجرفت أرضها.
فهذه هي ذكرياتي مع هذه المزرعة التي دمرت ولكن لا يستطيع من دمرها تدمير ذكرياتي معها.
إرادة الأرض بالحياة أقوى من جبروت الإنسان وضغط آلته، إنه واقع هذه الأرض المجرفة بسند التي تحدت كل من حاول تدميرها وجعلها من الماضي، فما إن سقطت حبات المطر ولامست سطحها أعادت لها أمل الاستمرار بالحياة وبقوة.
اليوم عندما زرت تلك المزرعة بعد عدة أشهر من تجريفها خلت أنني كنت بمكان قد تعرض لحرب ودمر كل ما يدل على وجود الحياة فيه.
نعم لقد كان إحساسي هكذا. ولكن مازال هناك أمل بالحياة وهذا ما حدث مع الأرض فقد استعادت الحياة بفضل حبات المطر التي نزلت على البلاد منذ أشهر ولكن مازالت الأرض بحاجة لمساعدة لكي تتخلص من آثار التخريب التي تعرضت كإزالة بعض المخلفات مثل قطع الخشب وأكياس البلاستيك التي تمنعها من التنفس والأوراق المبعثرة بكل مكان.
عندما انطلقت مع رئيسة جمعية أصدقاء البيئة لأخذ بعض الصور للأرض بعد انتعاشها واستعادتها للحياة بفضل الله الذي أنزل المطر لإحيائها، استوقفني منظر رائع وغاية بالجمال وهو لنبتة تحمل أزهارا صفراء اللون فقد ذكرني هذا المنظر باجتياح القوات الأميركية للعراق وتحديدا عندما وصلت جيوش الدمار للصحراء فقد كانت مثل هذه النبتة موجودة بالصحراء وقد كانت تقاوم دبابات القوات الأميركية بصمودها بوجههم كما كانت تعلن عن بداية الحياة وقد كانت تريد أن تعلم هؤلاء بوجود حياة بهذه المنطقة حتى وإن كانت صحراء وكذلك تريد لفت نظرهم باستمرارية الحياة بالعراق وأي مكان آخر بالعالم وانه لا يمكن لآلة أن توقف الحياة (فالحياة تبدأ وتنتهي بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى)».
إقرأ أيضا لـ "خولة المهندي"العدد 1643 - الثلثاء 06 مارس 2007م الموافق 16 صفر 1428هـ