ربما لم نكتشف بعض الثقافات حتى الآن، ومن جملتها الثقافة العربية، التأثير الفكري الباهر على الإنسان والمردود الاقتصادي الضخم من هذا الذي يسمى الفن السابع (السينما). في الأسبوع الماضي شاهدت قصتين على الشاشة الملونة، واحدة لملك (افتراضي) والثانية لملكة حقيقية.
الأولى قصة باسم «آخر ملوك اسكتلندا» والقصة الثانية بعنوان «الملكة» وهي ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية.
ما يجمع الشريطين هو أولا كاتب قصتي الفيلم بيتر أوجين، وهو كاتب للسينما يعرف تماما أدواته الفنية ويوظفها التوظيف الصحيح بإتقان، والثانية أن الفيلمين يستعرضان مقطعا من التاريخ الحديث، دكتاتور أرعن، وحيرة ملكة في قوت الأزمة. ما جمع الفيلمين بعد ذلك هو حصول بطليهما على جائزة الأوسكار التي تعتبر تتويجا لعمل أي فنان مبدع في عالمنا اليوم.
فيلم «الملكة» التي مثلت الدور الرئيسي فيه فنانة ستينية هي هلن ميرن، يقتطع من حياة ملكة إنجلترا أسبوعا واحدا فقط، هو الأسبوع الذي تلا مقتل الأميرة السابقة ديانا، التي طُلقت من ولي العهد تشارلز قبل ذلك الأسبوع بعام تقريبا، وأخذت قصة طلاقها ثم طريقة حياتها بعد ذلك، التي اعتبرتها المؤسسة الرسمية «متهتكة» الكثير من عناوين الصحف ونشرات الأخبار التلفزيونية.
تأتي الأخبار للملكة عن وفاة ديانا وهي في منتجعها الصيفي في اسكتلندا. وهنا يبدأ الفيلم يتحرك بين موقفين، موقف تقليدي لملوك إنجلترا المحافظين، فلم تعد ديانا في نظرهم جزءا من العائلة الحاكمة، وهي بالتالي فتاة عادية صادف أن تزوجها ولي العهد ولا يستوجب موتها موقفا رسميا، أما الناس العاديون (المواطنون) فقد أخذوا من فرط حزنهم يتدفقوا إلى مقر إقامة ديانا ومقر إقامة الملكة في لندن مشبعين بالحزن والأسى. رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير وممثل الطبقة الجديدة المنحازة للتحديث يقف حائرا بين هذا الموقف الملكي الصامت الذي لا يعطي قيمة لحزن الناس، وموقف الجمهور وهو كسياسي لا يستطيع أن يتجاهل هذا الحزن، وخصوصا أن زوجته لها ميول جمهورية، تعتقد أن عصر الملوك انتهى بما يفرضه من مظاهر البروتوكول القاسي حتى في حالات الحزن الشديد، فيأخذ موقف الناس مستفيدا من كل التعاطف ويطلق على المقتولة لقب «أميرة لناس».
الفيلم يرسل أكثر من رسالة وهي أولا أن المؤسسات التقليدية، حتى الملكية التقليدية، لابد أن تسير مع التغيير، والثانية كيف يستفيد السياسيون من موجة عاطفة الجمهور مستعينين بوسائل الإعلام الحديث، ففي الوقت الذي تنزل فيه أسهم الملكية في ذلك الأسبوع الحاسم تتألق فيه أرباح بلير السياسية.
في مقطع من الفيلم يركب ولي العهد تشارلز مع الملكة في سيارتها الرينج روفر. تسوق السيارة متفقدة عزبتها الكبيرة في تلال اسكتلندا، وكلابها في الخلف، يبدأ تشارلز الحديث عن مطلقته، فلا تطيق الملكة الكلام في الموضوع، فتنزل من السيارة وتُنزل كلابها معها، وتترك تشارلز يسوق السيارة راجعا من دون أن تتفوه بكلمة واحدة عن الموضوع.
في نهاية المطاف وبعد ضغط شديد من وسائل الإعلام الحديثة التي لا تفهم الملكة مقاصدها، تنزل عند رغبة الشعب، وتأمر بتنكيس الأعلام الرسمية على مقارها التي لم تنكس حتى في وفاة والدها كما قالت، وتوافق على جنازة رسمية لديانا (الشعبية) وتأتي المصادفة أن الرسميين ليست لديهم خطط جاهزة لجنازة رسمية فيستخدمون ما أعدوه لجنازة الملكة الأم التي تقول باستغراب: ولكنها جنازتي، أنا رتبت فيها كل شيء!
الفيلم وطريقة عرضه المشكلة يقدم إلينا عددا من الدروس، أولها أن المؤسسة الرسمية البريطانية، سواءٌ أكانت مجلس الوزراء الحاكم أم المؤسسة الملكية، لم تحتج أو تبدِ أي تذمر من عرض فيلم ينقد المؤسسة كلها، خفة رئيس الوزراء وقربه لانتهاز الفرص، وممانعة الملكة القاتل في زمن عصيب، أما ما يفرضه الإعلام ومن ورائه الجمهور (لا يستطيع أحد أن يقرر أيهما يؤثر أكثر في الآخر) فهما بطلا زماننا.
آخر ملوك اسكتلندا هو قصة جزء صغير أيضا من جملة السنوات الثماني التي حكم فيها عيدي أمين أوغندا بين عامي 1970 و1978، وهذا طبيب شاب من اسكتلندا يقرر بعد تخرجه من الجامعة أن يسافر إلى بلاد بعيدة (دافئة وإنسانية) كما قال، فيتبرع للعمل طبيبا في أحد مراكز التبشير في قرية أوغندية نائية، ولم يمضِ عليه بضعة أيام حتى يحدث انقلاب عسكري ويأتي بضابط ضخم الجثة (يمثل دوره ببراعة فوستر وايتتكسر) وهو عيدي أمين، وبمصادفة أخرى يتقابل الاثنان في القرية القريبة. عيدي أمين يعد الجماهير بالسمن والعسل، والطبيب (نيكولاس جبجن) حتى يبقى الاسم الاسكتلندي، يستمع بانبهار بين الجمهور. يحدث حادث بسيط لعيدي أمين وهو عائد من القرية إلى مقر إقامته، فيحتاج إلى طبيب على عجل، وكان نيكولاس جاهزا، وتُعمر صداقة بين الاثنين يطلب بعدها أمين من نيكولاس الذهاب إلى كامبالا العاصمة كي يصبح طبيبه الخاص.
عيدي أمين متعدد الزوجات المتهتك تضيق به المؤسسة البريطانية التي كانت في الأصل وراء وصوله إلى الحكم ظنا منها أنه سيسهل مصالحها، إلا أنه نتيجة عدد من المؤامرات على حياته يبتعد عن المؤسسة البريطانية، بل ويحرجها من طريق طرد أكثر من 50 ألفا من الآسيويين العاملين في أوغندا إلى إنجلترا بصفتهم مواطنين بريطانيين، والذين كما قال أمين: قد جاء بهم الاستعمار الإنجليزي، على رغم وجود بعضهم من الجيل الثالث ومولد في أوغندا. وكل ما غاص الدكتاتور في فشليه السياسي والاقتصادي، زاد كره الإنجليز ولكنه بالتناقض يحب الاسكتلنديين، في تفسير ساذج وغير واقعي للتفريق بين شمال بريطانيا وجنوبها.
عبدي أمين يبطش بعد ذلك بعدد هائل من شعبه، في منظر يدخل نيكولاس المستشفى العام فيرى أن الجهاز السري لعيدي أمين قد مثّل بعدد كبير من جثث المعارضين وأرغم أقرباءهم على الحضور إلى مشرحة المستشفى ليتفرجوا على بقايا جثثهم الممزقة والمُمَثل بها. يبرر أمين تلك التصرفات بأنه معرضٌ لمؤامرات داخلية، كما لا ينسى الفيلم أن يذكر معاناة أمين في طفولته وطرد والده إياه من البيت، وعمله نادلا في الجيش، وكان كثيرا ما يُهزأ به ويُضرب من رؤسائه!
بعد محاولات من المؤسسة الانجليزية الممثلة في أوغندا لإقناع نيكولاس بالقرب من عيدي أمين أن يتخلص منه بصفته طبيبه الخاص، ولكنه يرفض مرارا، إلا أنه يقتنع في نهاية المطاف، ويقرر الخلاص منه. ويختار المخرج الفصل النهائي في الفيلم في مطار عنتابي، وهو المطار المشهور الذي خطف إليه بعض الفلسطينيين طائرة إسرائيلية، وهناك تدور آخر مرحلة الصراع، فيكتشف أمين خيانة من ائتمنه، فيأمر بتعليقه من ثدييه بخطافين حتى الموت، إلا أنه يُنقذ من طبيب أوغندي معارض أثناء الفوضى التي ألمت بالمطار ويهرب في طائرة بعض من أفرج عنهم، ثم يقول لنا الفيلم إن طائرة كوماندوس إسرائيلية قد حررت الرهائن الباقين من ذلك المطار البدائي. لا يستطيع مرة أخرى أن يخرج المشاهد من هذا الفيلم إلا ويرى كم من السذاجة هذا الرجل الضخم عيدي أمين يحمل، وكم من الثمن الباهظ الذي تدفعه شعوب العالم الثالث بسبب جشع المؤسسات الصناعية الغربية التي أتت بعيدي أمين أصلا إلى الحكم ظنا أنها تستطيع أن تحلب بقرة اقتصاد أوغندا، فإذا السحر ينقلب على الساحر.
توفي عيدي أمين بعد الانقلاب عليه أخيرا في المملكة العربية السعودية العام 2003 من دون أن يترك لنا - حتى الآن - على الأقل الجانب الذي يراه في تلك المأساة التي سببها لبلاده.
بطلا الفيلمين حازا أخيرا جائزة الأوسكار، وهذا يعني تلك الإجادة منقطعة النظير لما قاما به من جهد تمثيلي بارع، إلا أن الكثير من الفضل يذهب إلى هذا العبقري بيتر أوجين الذي كتب نصوص القصتين فأضافت إليها أدوات السينما الحديثة سحرا يبقى في ذهن المشاهد الكثير من الدروس.
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1642 - الإثنين 05 مارس 2007م الموافق 15 صفر 1428هـ