العدد 2249 - السبت 01 نوفمبر 2008م الموافق 02 ذي القعدة 1429هـ

الحاج عثمان... جدارٌ عازلٌ للطائفية!

حيدر محمد haidar.mohammed [at] alwasatnews.com

في عصر الأربعاء الماضي ذهبت مع صديقٍ لي لمجلس عزاء في قاعة عبدالرحمن الجودر في جمعية الإصلاح في المحرق، وبعد خروجنا أخذني صاحبي من دون تخطيطٍ مسبق إلى مبنى لا يبدو بعيدا، ولكنني لم أكن أعرف سبب انحراف مسارنا إلى غير الهدف الأم.

نزلنا من السيارة معا، متوجهين إلى مركز المحرق للرعاية الاجتماعية (دار رعاية المسنين)، وعلى الفور وحينما كنا نشرع في دخول الرواق المؤدي إلى القاعة الرئيسية أدركت السبب فبطل عني العجب!.

هنا، عادت بي الذاكرة إلى هذا المكان... إننا متوجهيْن إلى رجلٍ أحبنا وأحبنناه... رجلٌ حسن السيرة، صافي القلب... إنه شيخٌ تسعينيٌ كنت ألمحه منذ صغري في كل مكان من حواري المنامة القديمة.

دخلنا مسرعيْن إلى حيث كان الحاج عثمان يستقبلنا في كل مرة، في الغرفة التي يشاطره العيش فيها نفرٌ آخرٌ من المسنين أيضا... ولكن ما إن شخصنا السرير، وجدناه من دون الحاج عثمان، على الفور ذهبنا لأحد مشرفي الدار، لنسأله عن الرجل التسعيني الذي ظننا أنه ربما كان يقضي متسعا من الراحة أو لعله جالسٌ حيث يتجمع المسنون في عصر كل يوم.

من دون مقدمات، بادرناه بالسؤال عن الحاج عثمان عبدالرحمن عتيق، تلعثم في الإجابة بادئا قبل أن ينطق بهدوء «عطاكم عمره»...!

كان الجواب صدمة لنا، على رغم أن قدَر الله أمر محقق، ولكننا كنا قد زرناه معا قبلها، وكان كعادته يقابلنا بابتسامته الكبيرة وبالسؤال عن أفراد الأسرة وعن المنامة التي كانت أسرته الكبيرة... إنه من عشقها... وعشق أهلها وعشق مساجدها وعشق حسينياتها وعشق مجالسها.

وبخلاف طريق الذهاب إلى الدار، حيث كنا مشتاقين لأن نلثمه قبلة، عدنا والعبرة تختنقنا، مأسورين بحجم الصدمة المفاجئة، واسترجعنا في مشوار العودة شريط الذكريات مع صور جميلة لهذا الشيخ الطاعن في السن الذي بنى جسور الوحدة بعفوية، وأعطى من الآثار في التقارب ما لم يعطه من أوتوا حظوة في المال والجاه.

الحاج عثمان هو نموذجٌ لعصرٍ ذهبي، ولعل من الغرابة أننا لا نعرف عن حياته الخاصة الكثير، غير ما نما إلى أسماعنا بأن الحاج عثمان - أو «حجي عثمان» كما يحب أهل المنامة تسميته - ولد في المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية الشقيقة، ولكنه قدم إلى البحرين في سني عمره الأولى، وأستقر لعقود طويلة من الزمن في المنامة.

كان بيته في فريج الفاضل، وهذا الفريج يمثل نموذجا حيا للتسامح الحضاري، فهو يقع في منطقة تجسد تنوع البحرين دينيا ومذهبيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا بل وعرقيا أيضا، ولكنها كانت حاضنة لكل هذه الثقافات. منزل الحاج عثمان كان في محاذاة سوق المنامة بالقرب من جامع الفاضل، وهو قريب كذلك من مأتمي العريض وبن رجب، كما أنه لا تبعده عن الكنيسة والمعبد الهندوسي سوى جادة واحدة!

كان الحاج عثمان - رحمه الله - رجل فاتح قلبه للجميع، يكاد يُرى في كل مسجد وفي كل مأتم، وكان من الحريصين على الحضور في إحياء مجالس الحسين (ع)، وفي زمننا الرديء هذا قد يبدو لنا أن التصاق رجلٍ موسوم بعثمان في المآتم والحسينيات طوال العام أمرا خارجا عن المألوف، لأنها أصبحت في نظر البعض صومعة مذهبية فحسب.

وبعد خروجنا من الدار، عدنا إلى المحرق ثانية، وليس بعيدا عن الدار مررنا بفريج البنعلي، وكانت هذه المنطقة قد شهدت مواجهات متجددة منذ أسابيع بسبب قضية «أعلام السواد أمام مأتم كريمي».

قلت لصاحبي... آه، كم كنت أتمنى لو أن الحاج عثمان حيا يرزق ليرى ما تعكس نفوسا مريضة على خلاف طيبة أهل المحرق المعهودة منذ الأزل.

إذا كان لي من درس تعلمته من هذا الرجل التسعيني، فهو أن الأوطان لا تبنى بالطوائف... نحن تفرقنا حينما جعلنا أنفسنا لقمة في يد أمراء الطوائف... إنه كان يمثل بحق جدارا عازلا للطائفية، وحريٌ بنا أن نحول جداره إلى فأس لتكسير كل جدار فولاذي بنيناه في قلوبنا ليحجب عنا الآخر.

الحاج عثمان كان سقيما، ولكن قلبه كان معافى، لأنه ينبض بالمحبة... ينثر الحب والابتسامات هنا وهناك.

كان الحاج عثمان يسير بعكازه على وهنٍ، وصوته البائح يكن عن تقادمٍ في العمر... السنين أرهقته ولكنها لم تسلب منه روح الدعابة، فهو كثير المزاح مع من يلتقي معهم.

رحل الحاج عثمان عنا بصمتٍٍ... كدأبه آثر ألا يحدث ضجيجا... رحل وبقت ذكراه الجميلة لتعلمنا سيمفونية الحياة المتوسمة بالحب.

الحاج عثمان، ذاك الطاعن في السن يقودني إلى عثمان الشاب، ابن الأعظمية الذي هرع من بيته مهرولا إلى جسر الأئمة في بغداد لينقذ أشقاء له في الدين والوطن، أخرج من الماء ما أخرج، ولكن كان قدره أن يكون الماء ملاذه الأخير، ذاك أنّ الماء هو رمز من يعشقون الخلود في تراتيل الزمن.

كم من الحاج عثمان والشاب عثمان ياترى نحتاج لينيرا لنا عتمة هذا الطريق المظلم...

إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"

العدد 2249 - السبت 01 نوفمبر 2008م الموافق 02 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً