المرُّة تلو المرُّة نذكِّر قادة دول مجلس التعاون الخليجية البترولية بأن الفرصة سانحة الآن لإعادة التفكير في سياساتها الاقتصادية بعد أن أدخلتها سياساتها السابقة في عين الإعصار الذي يعيشه العالم الآن. ومهما حاول الوزراء تطمين الناس فإن الأيام المقبلة ستثبت أنها كانت تطمينات سياسية وليست تطمينات اقتصادية. فأن يتحدث العالم عن أن الأزمة المالية العولمية الحالية قد شطبت من الدفاتر ما مقداره 3 تريليونات (ثلاثة آلاف مليار) من الدولارات حتى هذه اللحظة، ومنذ يومين يجري الحديث عن أن الكثير من صناديق الاستثمارات العالية الخطورة (Hedge Funds) مهددة بالإفلاس وضياع المليارات من الدولارات على المشتركين فيها، وأن يعلن رسميّا دخول مكنة الاقتصاد العولمي في الدول الغربية مرحلة الانكماش والركود التي قد تستمر لخمس سنوات عجاف. ولابد أن يحصل كل ذلك بينما يقول المسئولون إن التأثيرات على دول مجلس التعاون ستكون محدودة، فإن الأمر لا يمكن تصديقه. ذلك أن أموال الصناديق السيادية وأموال مؤسسات التأمين وأموال هيئات التقاعد وأموال الأفراد وغيرها كثير كانت تستثمر جزئيّا في أرض الأعاصير تلك.
من هنا الأهمية القصوى لإعادة التفكير في الفكر الاقتصادي الذي آمن به بعض قادة المجلس الأساسيين. إن الريجانية (نسبة إلى الرئيس الأميركي السابق ريغان) والثاجرية (نسبة إلى رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مدام ثاجر) اللُّتين نقلتا العالم إلى عصر الليبرالية الجديدة، عصر الرأس مالية المتوحشة الأنانية العدوانية، إنها قد ماتت. وفي الفكر السياسي تترنح اليمينية وتعود الكثير من شعارات اليسارية. واقتصاد السوق الحر المتروك من دون ضوابط حكومية سيأتي إلى نهايته قريبا، إذ يجري الحديث الآن عن مؤسسة دولية لمراقبة ممارسات الشركات العابرة للقارات. إن ذلك قد حدث أو سيحدث، والعالم يراجع فكره وسياساته الاقتصادية، فهل سيراجع قادتنا فكرهم وسياساتهم الاقتصادية، لا نقلا من الآخرين هذه المرة، وإنما استجابة لحاجات مجتمعاتهم ولحماية تلك المجتمعات من عواصف الخارج؟
دعنا نأخذ مثالا لمثل هذه المراجعة للممارسات الاقتصادية في دول مجلس التعاون. لنأخذ حقل العقارات الذي يعاني من إشكالات مفصلية في كل دول مجلس التعاون.من هذه الإشكالات فتح باب الاستثمار والتملك العقاري للأجانب بصورة مطلقة وغير محددة، الأمر الذي أدّى إلى الدخول في مضاربات مجنونة رفعت أسعار العقارات إلى مستويات خيالية وجعلت امتلاك أرض من قبل المواطنين من ذوي الدخل المحدود أمرا شبه مستحيل. فهل باستطاعة قادتنا، وقسم كبير منهم منغمسون في اللعبة إياها، مراجعة سياسة التملك والبيع والشراء من قبل غير المواطنين بحيث تؤدي تلك السياسة إلى إبعاد التضخم في سوق العقار من جهة وإلى توجيه الأموال إلى حقول الاقتصاد الإنتاجي والمعرفي المفيد من جهة أخرى؟
دعنا نأخذ مثالا ثانيا، إن قسما كبيرا من اقتصاد دول مجلس التعاون هو اقتصاد استهلاكي بذخي تبذيري. فهل نستطيع وضع ضوابط بنكية وإعلانية وضريبية جمركية وغيرها لإبعاد مجتمعاتنا عن الانغماس المبتذل في دوامة الاستهلاك العولمية التي لا تستفيد من تأجيجها إلاَّ المؤسسات الإنتاجية الدولية الكبرى في خارج دول مجلس التعاون؟
دعنا نأخذ مثالا ثالثا، هل نستطيع إيقاف حمَّى الاستعانة بالشركات والمؤسسات الأجنبية لتسيير كل مظاهر حياتنا في حقول العمل والمال والتعليم والتدريب والإدارة والاستثمار والأمن وغيرها، والبدء بالاعتماد على أنفسنا من خلال تدريبات مكثفة وبناء مؤسسات وطنية ووضع ضوابط لأية مزاحمة أجنبية؟
هذه بعض من أمثلة عملية مبسّطة قصد منها التوضيح. ذلك أن الهدف النهائي هو حصول انقلاب جذري في الفكر الاقتصادي في الخليج يتوجه في الأساس نحو توزيع عادل للثروة، نحو منع لاستفادة جماعات صغيرة استزلامية لمجمل الثروة البترولية، نحو دمج لاقتصادنا في الاقتصاد العربي، نحو بناء اقتصاد إنتاجي ومعرفي عندنا وفي كل الوطن العربي، نحو مقاومة كل ابتذال في العولمة. إن العالم يراجع نفسه، فهلا بدأنا رحلة المراجعة العاقلة الهادئة العادلة؟
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 2249 - السبت 01 نوفمبر 2008م الموافق 02 ذي القعدة 1429هـ