قبل سنة تقريبا كان من الصعب تخيل أن يكون باراك حسين أوباما المرشح الأكثر حظا بالفوز بمنصب رئاسة الولايات المتحدة. الآن وقبل 72 ساعة من إعلان اسم الفائز بالانتخابات الرئاسية بات أوباما هو المرشح الأوفر حظا بالفوز. فكل الطرقات تسير باتجاه هذا الشاب الأسمر الذي حطم المقاييس وقلب المعادلات وكسر نمطية الاختيار في دولة عانت من تاريخ عنصري منذ تأسيسها إلى ستينات القرن الماضي.
استبعاد حسين أوباما من حلبة التنافس قبل سنة من الآن ليس مفتعلا وإنما تأسس نظريا على قناعات سياسية احتكمت إلى الجغرافيا والتاريخ والثقافة والتكوين الديموغرافي/ الاجتماعي لمؤسسات الدولة. والاستبعاد جاء بناء على نزعة تجريبية اعتمدت سلسلة محطات زمنية مرت خلالها الولايات المتحدة منذ نهاية القرن الخامس عشر. فهذه «الدولة» قامت على نظرية مثالية مشبعة برؤية دينية تقول إن الأرض موهوبة من الأعلى وهي موقوفة على جيل المؤسسين القادم من أوروبا الغربية الشمالية (الانغلوساكسون البروتستانت). فالإفريقي عنصر طارئ واستقدم إلى البلاد المكتشفة حديثا لاستخدامه في حرث الأرض وزرعها وحصادها. والهندي (صاحب الأرض الأصلي) عنصر متوحش لا قيمة إنسانية له وهو مجرد عابث بالخيرات وقوة تعطل التطور وتمنع الحلم من التحقق.
كل هذا التراث المتراكم من العنصريات ساهم في استبعاد اسم أوباما من السباق نحو المنصب. وجاءت مختلف القراءات والتحليلات لتؤكد نظريا أن الحزب الديمقراطي سيختار المترشحة هيلاري كلينتون (زوجه أهم رئيس أميركي في النصف الثاني من القرن العشرين) وإحدى أهم المحاميات في أميركا وأبرز رموز السياسيين الحالمين بالتغيير.
القراءات والتحليلات الأولى اعتمدت على مواد أولية من التاريخ الأميركي وهي مالت نحو ترجيح كفة كلينتون ليس حبا بها وإنما استنادا إلى تجارب سابقة. فالدولة الأميركية (الديمقراطية - الجمهورية) تأسست على قاعدة دستورية لا تنص بنودها على التمييز العنصري وتؤكد الحرية والمساواة، ولكنها تاريخيا لم تلتزم بدستورها حتى حين انفجرت الحرب الأهلية بين ولايات الشمال والجنوب وانتهت بانتصار القوات الفيدرالية (الاتحادية) على القوات الكونفيدرالية (الانفصالية). فهذه الدولة التي أطلقت وثيقة المساواة وأقرت العدالة وحررت الأفارقة من قيود ملكية الأبيض للأسود بعد نهاية الحرب الأهلية لم تطبق التزاماتها عمليا واستمر التمييز ساري المفعول من العام 1860 إلى 1960.
حتى ذاك العام لم يصل منصب الرئاسة الأميركية سوى الأبيض البروتستانتي إلى أن فاز جون كنيدي بالموقع وهو الايرلندي الكاثوليكي الأبيض. فوز كنيدي شكل مفاجأة غير محسوبة وأثار ضجة عالمية اعتبرتها مراكز القوى بداية تحول في نمط الشخصية الأميركية وخطوة تاريخية ترجح احتمالات تحول دراماتيكي في تاريخ الولايات المتحدة.
بعد سنتين اغتيل الرئيس «الايرلندي الكاثوليكي» وانجرفت خلال فترة الفوضى السياسية التي تلت حادث الاغتيال الكثير من القراءات والتحليلات التي تفاءلت بالرئيس كنيدي وعادت الأمور إلى مجاريها الطبيعية.
تصادف اغتيال كنيدي الغامض والمشبوه مع سلسلة اضطرابات عنيفة شهدتها أميركا آنذاك. فهذه الدولة العظمى قررت هيئاتها الانخراط في حرب فيتنام، كذلك بدأت تشهد ساحاتها موجات من العنف الدموي والكراهية العنصرية فاغتيل شقيق كنيدي (روبرت) المترشح للرئاسة في العام 1968، ثم اغتيل مالكوم اكس (القوة السوداء) الذي أعلن التزامه بالإسلام، واغتيل داعية حقوق الإنسان الأسود مارتن لوثر كينغ.
ساهمت كل هذه المشاهد في إعادة النظر بكل تلك القراءات والتحليلات التي أخذت تفتح أبواب الدولة على متغيرات جذرية. فالحوادث المتعاقبة أجمعت على رسم صورة لا تحتمل تعدد الألوان وتنوع الثقافات حتى حين أصدر الرئيس الأميركي ليندون جونسون وثيقة المساواة وألغى كل مظاهر التمييز العنصري. فالرئيس جونسون كسر في قراراته تلك الأغلال والأقفال لكنه أبقى الباب مغلقا تاركا المسألة للزمن وحكم التاريخ.
هل نحلم؟
خطوة جونسون كانت اضطرارية. فهو اتخذها مكرها لتغطية قرار التورط في حرب فيتنام وحاجة الدولة للجنود «الملونين» للقيام بالخدمة العسكرية والقتال في جنوب شرقي آسيا. لذلك أحاطت الشكوك بالخطوة إذ اعتبرتها القراءات والتحليلات مجرد مناورة إعلامية وخدعة مؤقتة وسياسة فرضتها حاجات الحرب للبشر وتحديدا الطبقات والفئات الفقيرة والمضطهدة لتكون بمثابة وقود يتم التخلص منها في أدغال فيتنام.
هذا التاريخ الطويل فرض شروطه السياسية على تحليلات وقراءات الانتخابات الأميركية الراهنة حين قرر باراك حسين أوباما ترشيح نفسه منافسا للسيدة الأولى على منصب الرئاسة. فالذاكرة ليست قصيرة ومن يعرف يدرك أن فرص أوباما شبه معدومة لمئة سبب وسبب. فهذا الشاب صغير السن وقليل التجربة وابن إفريقي (كيني مسلم) تركه والده بعهدة أمه البيضاء (إيرلندية) التي عادت وتزوجت من مسلم آسيوي (إندونيسي) وعاشت معه نحو ست سنوات في جاكرتا. وبسبب هذا السجل جاءت التوقعات المتسرعة لتشير إلى استحالة ظهور أوباما على مسرح التنافس. فالمسألة مسرحية وهي ستنتهي مع انتهاء الفصل الأول لتستمر هيلاري وحدها تلعب على الخشبة. أقصى التوقعات كانت تشير إلى فوز السيدة الأولى بترشيح الحزب الديمقراطي وربما إذا شاءت فقد تختار أوباما نائبا للرئيس.
كل القراءات والتحليلات سقطت حين ترسخ موقع أوباما وبدأت تؤيده شخصيات تاريخية في الحزب. البعض اعتقد أن وراء الاختيار «مؤامرة» يقودها الحزب الجمهوري في الخفاء بهدف توريط منافسه بمرشح سهل ويمكن اصطياده بسبب سجله الحافل بالتعارض مع نمط الرئيس وشخصيته ولونه ودينه وطبقته وأسرته وحياته... وغيرها من تفصيلات تعتبر مهمة في التأثير النفسي على الذهنية الأميركية المتوارثة جيلا بعد جيل.
قبل سنة تقريبا كان من الصعب تخيل ما أصبح الآن من الأمور المحتملة والمرجح حصولها بعد 72 ساعة من الآن. فهل نحلم كما قال مرة مارتن لوثر كينغ في خطابه الشهير الذي اغتيل بسببه لاحقا. الحلم كما يبدو أصبح على قاب قوسين من التحقق. ومع ذلك لاتزال هناك الكثير من القراءات والتحليلات تتخوف من «اليد السرية» وانقلاب المعادلة في اللحظات الأخيرة بسبب الطبيعة العنصرية التي تألفت منها الصورة النمطية لصفات الرئيس في الذهنية الأميركية. فهناك مخاوف من أن يكون الناخب يكذب ويعطي أجوبة غير صادقة للصحف ومراكز الاستطلاع. وهناك مخاوف من أن تظهر فجأة قوة مضادة ترفض القبول بالواقع وتتحرك ميدانيا لتصب أصواتها لمصلحة المترشح المنافس. وهناك من يشير إلى اسم «حسين» واحتمال أن يشكل عقبة دينية في وجه الشاب الأسمر. وهناك الكثير من الفرضيات التي تتحدث عن صعوبات تمنع نجاح أوباما بالمنصب وموانع تعطل عليه استلام منصبه في حال نجاحه. الكل متخوف وغير متيقن والسبب يعود إلى الذاكرة الطرية المجبولة بالتجارب المرة والصور الخصبة بالعنف والكراهية العنصرية ونبذ المسلم واحتقار الآخر حتى لو كان من الصنف الممتاز.
كل الأسئلة مطروحة والأجوبة مفتوحة على احتمالات... إلا أن الوقائع (الاستطلاعات) تشير إلى أن الطرقات تتجه نحو بطاقة «نعم» للشاب الأسمر. فهل نحلم؟ هناك 72 ساعة أمامنا لنعرف الجواب. فالتاريخ على طوله الزمني مجرد ساعات بين الحلم واليقظة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2249 - السبت 01 نوفمبر 2008م الموافق 02 ذي القعدة 1429هـ