وإيران الجمهورية الإسلامية تحتفل بعيد ثورتها الثامن والعشرين أستحضر ما قاله آرنولد توينبي من أن الحضارات تنعقد نطفتها وتولد ثم تنمو وتزدهر وتأفل ثم تتحجّر، وإذا ما عُرِفَ أن نظرية التحدي والاستجابة تجنح صوب الرد كُمُكوّن نطفوي لأية حركة مضادة فلا غرو أن نقرأ الرد الديني «الخميني» ضمن سياق التحدي المذكور وإن بدا الفرق بين الدولة والحضارة بيّنا.
في كل مرة أحاول أن أقرأ الثورة الإسلامية أقرأها بالتضاد ومن حيث مركز النقض بغية اكتشاف ما أمكن من مساحة يشترك فيها الكذب والصدق... أو التماهي والانفكاك التي جُلّها قد رَشَحَ عن جدلية الثورة ومسلكيات الدين الناشئة معها، سواء أكانت ثورة الجمهورية الأولى أو الثانية أم الثالثة على غرار نموذج الجمهورية الفرنسية الخامسة.
ولأن تحيين التضاد بإيجابية يعطي قيمة أكبر لمُخرجات الأفكار والرؤى؛ فإن استدعاءها مع احتفاء الثورة بميلادها السنوي يبقى ضرورة... وقد وجدت أن الإصلاحي المتطرف وأحد نشطاء جبهة الثاني من خرداد محسن سازجار يُشكّل مادة جيدة يُمكن مناقشتها هنا من موقع التضاد، وبالتحديد في كلام الشرعية ومصادرها للنظام الإسلامي، خصوصا وأن سازجار قد كتب عنها بإسهاب في دراسته«The Point Of No Return Iran S Path To Democracy».
وبالذهاب إلى الشرعية Legitimacy أو المشروعية legality التي اعتمد عليها النظام السياسي في إيران منذ انتصار الثورة الإسلامية في فبراير/شباط من العام 1979 حتى اليوم يمكن التطرق إليها من خلال خمسة محاور:
(1) الإسلام السياسي كتدين حقيقي.
(2) محاكاة سلطة دينية.
(3) الثورة كمهمّة تاريخية.
(4) الاستقلال.
(5) الدعم الشعبي.
ومن خلال التناول العمودي للموضوع يُمكن إفراد مادة مستقلّة عن كل مصدر من المصادر المذكورة نظرا لأهميتها، لذلك فإنني اليوم أبدأ بالإسلام السياسي أو بما يُصطلح بمشروع تديين الدولة والمجتمع كهدف منشود دأب القادة الإيرانيون على الترويج إليه لإيجاد نوع من التمكين السياسي للنظام وعدم تركه إلى السلطات الإضافية.
إيران ومنذ نهايات القرن التاسع عشر شهدت حركات سياسية إسلامية وغير إسلامية مختلفة كان أهمها الحركة الدستورية ضد الحكم القاجاري التي قادها عدد من الدينيين كالشيخ فضل الله النوري والسيدعبدالله البهبهاني وتركي خان وباقر خان، ثم تلتها من حيث الأهمية الحركة التأميمية للنفط التي قادها محمد مصدق بتحالف مع آية الله الكاشاني التي لم تستمر إلاّ سبعة وعشرين شهرا... ولأن المجتمع الإيراني كان في غالبيته (85 في المئة) يعيش في الأرياف فإن القابليات السوسيولوجية كانت أقرب إلى المحافظة منها إلى التحرر، كما أن تأسيس آية الله الحائري لحوزة قم المقدسة في العام 1922 ثم انتقال المرجعية الدينية للشيعة إلى آية الله البروجردي بعد وفاة أبوالحسن الإصفهاني في العام 1947 فقد تم توطين الملامح الرئيسية لمجتمع ديني خالص وإن بدا القيّمون عليه مجانبون للقضايا السياسية مدة خمسة عشر عاما وهي الفترة الفعلية لمرجعية البروجردي، وكان ذلك مدعاة لأن تُزاحم الحوزة العلمية السلطة الشاهنشاهية في الاستيلاء على أجزاء مهمّة من مصادر السلطة والحماية الرأسية في البلاد وهو ما كان يُشكّل حسب رأي السلطة نواة رئيسية لعمل ديني مُسيّس. والغريب بأن سياسات الشاه نحو تغريب المجتمع الإيراني وتمكين البهائية ومحاولة تصدير المرجعية الدينية من إيران إلى العراق عبر تأييد مرجعية آية الله السيدمحسن الحكيم في النجف الأشرف إلاّ أن قوة البعث الديني كانت قد تجذّرت في المجتمع الإيراني بصورة مهولة طيلة نصف قرن، لذلك كانت الفرصة شبه مؤاتية للإمام الخميني لأن يبدأ حركته السياسية ضد الحكم الشاهنشاهي، ولم يكن الإمام يواجه أزمة حقيقية في مسألة تديين المجتمع على اعتبار أن الأرضية كانت مهيأة لذلك، فكان التبشير بالنسبة إليه يتركّز على أمرين اثنين الأول: إفقاد النظام الحاكم للشرعية السياسية، والثاني تعبئة الناس نحو الإيمان بخط ثوري متدين والقبول بالدين كحاكم شرعي يمتلك الحلول لمشكلات المجتمع والسياسة، وأن التحرك المباشر ضد مؤسسة السلطة ليس حقا دائما بقدر ما هو مسئولية، وقد نجح الإمام الخميني في مسعاه فكانت إيران ومنذ مجزرة الخامس عشر من خرداد من العام 1963 حتى العام 1978 تنتظر التحيين الأنسب للإنقضاض على إرث السلطة الشاهنشاهية المتهالك...
بعد انتصار الثورة ومجيء قيادات غير إسلامية إلى السلطة أو مجموعات تؤمن بالإسلام «الأوّلي» بدأ الحديث يدور عن قدرة الرجل القادم من رحم الحوزة الدينية المترعة بالنّصّية وخلاصات الدين أن يقبل بمثل تلك المجموعات، ليتجاوزه لاحقا نحو التمايز المعرفي بين التحديث والتأصيل وتشخيص نقطة الاشتباك بينهما من دون التماهي الفاحش.
وحتى عندما بدأ الصدام بين الإسلاميين واليساريين تحوّل القبول الديني عند الإمام الخميني إلى مرتبة أخرى تتعلّق بمهادنة المُنجز المادي ومحاول تكييفه مع سلطة الواقع، وهو ما دفع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عندما زار إيران في خريف 1978 لأن يقول «بأنّه شاهد أول تمرد كبير ضد النظم العالمية، وهو أكثر أشكال التمرد حداثة»!
خلال عملية التواصل الممتد ما بين الثورة كمنهل معنوي والدولة (الجمهورية الإسلامية) كمُنجز حقيقي والمجتمع كحاضن بشري تتولّد منه السيادة ولوازم الحكم بقيت مشكلة الارتباط ما بين تسييل المادة وتحقيق الرفاه الاجتماعي من جهة والمقبولية الشعبية من جهة أخرى كاشتراط كلاسيكي لكسب مزيد من الشرعية ومواصلة مشروع التديين الأفقي، وهو ما دفع بالإمام الخميني لأن يعتمد ولأكثر من عقد من الزمان نظام الاقتصاد المركزي المُوجّه بغية إبعاد الناس عن المشكلات الاقتصادية المباشرة والمحافظة على أسعار السلع الاستهلاكية وتوفير ما أمكن من السيولة وإن كان على حساب اقتصاد السوق وجلب الاستثمارات الأجنبية والعمل على إيجاد دورات متنامية للاقتصاد الوطني.
ولأن عنصر التديين قد تلازم مع قدرة الثوريين الإسلاميين على تحقيق تفسير أفضل للإسلام وتقديمه كمنقذ فقد تأكّد أن ديمومة التديين تلك مرتبطة أساسا بأمور أخرى تتعلق بالسياسة الداخلية والخارجية، وبالتالي لا يمكن في ظل عالم متغير قائم على نظام مصالح براغماتي ورأسمالي جشع تسيير سياسات مؤدلجة من دون حصول خسارة ما، وأمام هذه العلاقة المعقّدة ما بين المقبولية والشرعية والاقتصاد والآيدلوجيا بدأ الخط البياني للشعبية المطلقة في الهبوط والصعود بعد التحول الاقتصادي إبّان حكومة الإعمار الأولى والثانية الأمر الذي انعكس على واقع تديين المجتمع والتقليل من اعتماد الدولة على التشريع النّصّي أو الحرفي المُقَولَب، وهو ما يُفسّره قيام مجلس صيانة الدستور باعتماد فقرة «لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية « بدلا من «مطابقا للشريعة الإسلامية».
لم يكن أمام الحكم الإسلامي وظيفة تبيين مصدر الدين من مباني تجميع الأعمال (كما يقول محمد جواد لاريجاني) وإنما كان الأهم هو عدم إبعاد الصورة الخلاصية للدين من قناعات الناس كقوة تمتد في الحقائق لبقاء التوازي القائم ما بين دينية السلطة ودينية المجتمع.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1641 - الأحد 04 مارس 2007م الموافق 14 صفر 1428هـ