استعرض المقال السابق بعض الخيارات الرئيسية التي يجب التركيز عليها من قبل المسئولين عن المياه في دول مجلس التعاون لتخفيض معدلات الزيادة المتسارعة للطلب على المياه في القطاع البلدي وتقليل الكلف المالية والاقتصادية لإنشاء محطات التحلية وتشغيلها وتخفيف الأضرار البيئية التي قد تنتج عن الإنتاج المكثف منها.
وكان الخيار الأول هو العمل على تقليل نسبة التسربات في الشبكة البلدية، التي تصل في بعض دول المجلس إلى 40 في المئة من المياه المزودة الكلية بواسطة الشبكة، وذلك من خلال وضع برامج للصيانة المستمرة والكشف عن التسربات، والتي أثبتت بعض التجارب العالمية أنه يمكن تقليلها إلى مستويات منخفضة جدا وصلت إلى 5 في المئة في مدينة فوكوما في اليابان بواسطة برنامج متكامل لإدارة التسربات. ولنا أن نتخيل كمية المياه التي من الممكن توفيرها في دول المجلس في حال الوصول إلى نسب مقاربة لهذه النسبة.
أما الخيار الثاني فهو العمل على تخفيض معدل استهلاك الفرد في القطاع البلدي، والذي يتراوح في بعض الدول إلى معدلات عالية جدا تصل إلى أكثر من 700 لتر للفرد في اليوم، الذي يمكن تحقيقه من خلال رفع الوعي في المجتمع الخليجي بقيمة المياه عموما، وفي القطاع البلدي خصوصا من خلال برامج الترشيد الفعالة، وإدماج المواصفات التقنية التي تعمل على ترشيد المياه في مواصفات المباني، وصوغ سياسة واقعية لتسعير المياه في القطاع المنزلي تحفز على الترشيد.
وإذا تم العمل على هذين الخيارين، اللذين يقعان داخل القطاع البلدي/ المنزلي، فإنه يمكن المساهمة بشكل كبير في تقليل معدلات الطلب المتصاعدة في القطاع البلدي/ المنزلي وتأجيل بناء محطات التحلية إلى عشرات السنين وتقليل كلفها الاقتصادية وآثارها البيئية على دول المجلس.
أما إذا نظرنا إلى خارج القطاع البلدي، فهناك أيضا، الكثير من مناطق الحل التي يمكنها أن تساهم في تحقيق الهدف المذكور أعلاه، وخصوصا في القطاع الزراعي، المستهلك الأكبر للمياه في دول المجلس.
حاليا تبلغ استخدامات المياه لهذا القطاع نحو 80 في المئة من المياه الكلية المستخدمة في هذه الدول. ولذلك، فإن أية نسبة توفير في المياه المستخدمة في هذا القطاع، وإن كانت قليلة، ستؤدي إلى توفير كميات كبيرة ومعنوية من المياه الكلية المستخدمة، ويمكنها أن تكمل احتياجات القطاع البلدي وتقلل من اللجوء إلى محطات التحلية لسد هذه الاحتياجات. وبالنظر إلى حجم الاستهلاك الحالي للقطاع الزراعي من المياه في دول المجلس (نحو 22.2 مليار متر مكعب) والزيادة في الطلب على المياه البلدية خلال الفترة 1990-2000 (نحو 2.1 مليار متر مكعب)، فإن توفير 10 في المئة فقط من استخدامات المياه للري في دول المجلس كان بإمكانه أن يوفر معظم الاحتياجات البلدية الجديدة لهذه الدول ويغنيها عن بناء نسبة كبيرة من محطات التحلية الجديدة خلال هذه الفترة (بافتراض صلاحية المياه الجوفية للاستخدام المباشر أو على الأقل للخلط مع المياه المحلاة).
وبحسب الدراسات الزراعية - المائية في دول مجلس التعاون تبلغ كفاءة الري (نسبة كمية المياه التي يستخدمها المحصول الزراعي فعليا من كمية المياه الكلية المستخدمة في الري) من 30 - 50 في المئة، وذلك بسبب استخدام طرق الري التقليدية المهدرة للمياه (الري بالغمر)، ما يعني أن ما نسبته 50 إلى 70 في المئة من المياه المستخدمة لا تستخدم من قبل النبات وإنما تضيع إما عن طريق التسرب الأرضي أو التبخر.
وبالإضافة إلى ذلك، يتسم القطاع الزراعي بمعدلات استهلاك مفرطة بسبب حفر الآبار غير المدروس وغير المقيد، والقصور في تنفيذ الإجراءات القانونية ضد عمليات الحفر غير المشروعة، وغياب الرصد والمراقبة للكميات المستهلكة، وزراعة المحاصيل عالية الاستهلاك للمياه، وعدم وجود تعرفة لاستهلاك المياه الزراعية التي تعتمد على المياه الجوفية، التي هي مستنزفة أصلا بسبب استخدامات هذا القطاع، وتتقلص صلاحيتها للاستخدام المباشر للقطاع البلدي باستمرار.
ولتخفيض معلات الهدر في القطاع الزراعي وتحسين نوعية المياه الجوفية، فإنه يجب أن يتم العمل على ضبط وتقنين استخدام المياه الجوفية في القطاع الزراعي وتقليل الهدر الزراعي قدر الإمكان لتحسين نوعية المياه الجوفية المتاحة. ويمكن عمل ذلك من خلال تطبيق الأدوات الاقتصادية والإدارية والتنظيمية، وتشمل التوسع في طرق الري والزراعة الحديثة وتحسين أنظمة نقل مياه الري على مستوى المزرعة وخارج المزرعة، وتطبيق أنظمة العدادات على المياه الجوفية وفرض تعرفة على استخداماتها، ووضع نظام تفصيلي لتراخيص حفر الآبار، وغيرها من الإجراءات التي تساعد على رفع كفاءة استخدام المياه في هذا القطاع وتقلل من الهدر المائي فيه.
وأخيرا، نعود إلى المستهلك نفسه في القطاع البلدي وسلوكه في استخدام المياه، منطقة الحل والمحور الأساس في المساهمة في تخفيض معدلات الزيادة في الطلب في هذا القطاع، إذ توجد ضرورة للعمل بشكل مكثف ومركز على توعية المستهلك بوجود علاقة مباشرة ووثيقة بين نمط ومعدل استهلاكه للمياه، ليس فقط مع نوعية المياه المزودة لمنزله، وإنما كذلك الكلف المالية والاقتصادية لإنشاء وتشغيل محطات التحلية الباهظة التي تتحملها الدولة، والتي تمثل عبئا كبيرا على كاهل موازنتها المالية وقد تحرم قطاعات حيوية أخرى، مثل الصحة والتعليم والتنمية البشرية، من الاستفادة منها، وكذلك الأضرار التي ستنجم عن الإنتاج المكثف لمحطات التحلية لبيئة الهواء الذي يستنشقه والبيئة البحرية التي يعتمد عليها في حياته كمصدر رزق وترويح.
كما علينا أن نبين للمواطن في دول المجلس العلاقة بين كلفة المحافظة على متر مكعب من المياه المنزلية وكلفة إنتاج متر مكعب منها، ففي حين تبلغ الكلف المباشرة لإنتاج المياه في دول المجلس أكثر من دولار أميركي، والكلف غير المباشرة أضعاف ذلك، فإن المحافظة على المياه وترشيد استخدامها لا يكلف أكثر من وجود النية عند المستهلك في قفل الحنفية عند عدم الحاجة إلى الماء!
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1640 - السبت 03 مارس 2007م الموافق 13 صفر 1428هـ