وأنا أطالع وأتابع حال «الهرج والمرج» التي تلف أقطارنا وأمصارنا في العالمين العربي والإسلامي، وكذلك في المعادلة الدولية المستولية على مصائرنا استحضرني نص قرأته في الفكر الأخلاقي والحكمة العراقية القديمة يقول: إذا لم ينتبه ملك إلى الحق فسيقع شعبه في الفوضى، وسيجتاح بلده. إذا لم ينتبه ملك إلى حق بلده فإن «أيا» ملك المصائر الإلهي سيغير مصيره الخاص، وسيدفعه دوما إلى طريق التعاسة. إذا لم ينتبه إلى حكيمه ستكون أيامه قصيرة. إذا لم ينتبه إلى مستشاره فستثور بلاده عليه (الحكيم «ابكالو» والمستشار «اومانو» هما مثل مستودع للعادات والشرائع التقليدية في البلاد. إذا أصغى إلى نذل فستتغير ذهنية بلاده. إذا انتبه إلى رسالة «أيا» فان الآلهة العظام سيقودونه دوما في المشورة وسبل «الإنصاف»).
إلى هنا ينتهي النص العراقي الأخلاقي القديم! وإذ يقول عنه صاحب الكتاب الذي أورده وهو حسن فاضل جواد في العام 1999 إنه «على الأرجح قد كتب في عهد الملك سنحاريب 704 - 681 ق. م، وإنه كتب لحدث ما، لكن المعاني التي وردت فيه تجعلنا نتخذ منه مثالا لصورة الحاكم العادل... بشكل عام... فإنني أكاد أضيف أنه ما أحوجنا إلى مثل هذه الحكمة والنصيحة اليوم لكل حكام العالم المتكالبين على ثروات منطقتنا ومقدرات بلادنا ولحكام بلادنا العربية والمسلمة من دون استثناء وحكام العراق خصوصا بعد أن أصبح العراق اليوم «لب الصراع» و «أم القضايا» والمصائب! التي تكاد تشبه الفتيل الذي يمكن أن يشعل حربا عالمية جديدة إن لم يحسن الجميع لاسيما «حكام» العراق الجدد وحكام دول الجوار حسن إدارة الأزمة المستفحلة والمتفاقمة فيه بعد أن ظهر الفساد وانعدام العدالة وانتشرت «التعاسة» التي يتكلم عنها النص العراقي القديم إلى درجة احتمال أن نغضب «ملك المصائر الإلهي» علينا جميعا فيعمم «التعاسة» تلك والتي صنعنا جزءا كبيرا منها بأيدينا إلى إرجاء بلادنا وأقطارنا كافة!
لا أدري كم هو جدي الاجتماع الدولي المقرر في بغداد أواسط الشهر الجاري والذي يفترض أن يحضره فيمن يحضره واشنطن وخصماها اللدودان اللذان تتهمهما بمسئولية كبيرة عما يحصل في العراق من إرهاب ودمار وتعاسة! أي سورية وإيران!
كما لا أحد يدري كم هي جدية الحكومة العراقية و «الكيانات» السياسية والدينية والمذهبية والعرقية والطائفية التي تتطاير منها الشظايا هذه الأيام «جثثا» مجهولة الهويةّ قاتلة ومقتولة، في التفكير ولو للحظة واحدة فيما كان يوما اسمه الوطن العراقي الذي جمعهم ولايزال هناك أمل أن يجمعهم إن هم استمعوا إلى «الحكيم» و «المستشار» الاكدي أو السومري القديم على الأقل، قبل أن يفكروا في حصتهم الحزبية أو الطائفية أو المذهبية أو الشخصية من ميراث ذلك الحاكم الذي لم يستمع إلى أحد فترك البلاد في «هرج ومرج» لاجتياح الأجنبي ولقمة سائقة بيد من سولت له نفسه وغرته الغنائم بالاستقواء بالأجنبي على ابن بلده ووطنه ناسيا أن الاستماع و «الإصغاء إلى نذل» كما تقول الحكمة العراقية القديمة فإن «ذهنية بلاده ستتغير» و «إن الليل سيد البلاد سيثير ضده عدوا غريبا يبطش بجيشه، ويجعل من نبلائه وضباطه مثل جوالين في الطرقات على غير هدى»!... و «إن مردوخ سيد السموات والأرض سيجعل خصمه يعلو عليه وسيجعل من أمواله وثروته هدية لأعدائه...»! كما تضيف الحكمة العراقية القديمة!
ولما كان الأمر ينطبق كما قلت ليس على العراق وحده، بل على كل الأقطار والأمصار من دون استثناء، فإنني قلق كما هو شأن الكثيرين ممن أعرفهم من نخب ومثقفي وحكماء ونبلاء هذه الأمة التي ننتمي إليها وكذلك بعض المنصفين من أولياء أمورها هنا وهناك، قلقين بألا يسود العقل ولا تسود الحكمة وأن تنقصنا «الجسارة» والجرأة والشجاعة اللازمتين في قول الحق وإسداء النصيحة مهما كانت مرة على بعضهم قبل فوات الأوان! اعرف أن الوقت ليس وقت العتاب والمحاسبة فيما بيننا، وليس وقت تصفية حسابات مع أحد، ولكنه أيضا ليس وقت المجاملات وتبادل التمجيدات! بل هو وقت المكاشفة والصراحة وقول الصدق وصديقك هو من صدقك القول وليس من صدقك وصفق لك!
فالأمة بجاحة إلى مراجعة حقيقية لشعاراتها وأقوالها وخطاباتها وتشخيصها لأولوياتها واتجاه البوصلة لديها!
اقتلوا الفتنة في مهدها أيا يكن صانعها مهما علا مقامه، وتحملوا الاختلاف مع الآخر من أبناء جلدتكم أو دينكم مهما كان حجم الاختلاف إن لم يكن رئيسيا ويصب في خدمة العدو الأساسي وهو «إسرائيل» ومن يقف وراءها!
ليس من مهمة أحد فينا الآن أن يقنع أخاه أو صديقه أو جاره بالرأي بقدر ما هي مهمته احترام رأيه وتقبله وتحمله من أجل إنجاز المهمة الكبرى وهي إعادة اللحمة إلى العراق وتاليا المنطقة التي تحيط به قبل أن تتشظى وتتقسم وتتجزأ إلى بؤر فتن دموية متنقلة لن تبقي أية خريطة من خرائط الجغرافيا السياسية الحالية على حالها! تذكروا كتاب «خنجر إسرائيل»!
أعيدوا قراءة فؤاد عجمي وبرنارد لويس وكل المحافظين الجدد من مدرسة شتراوس وشيكاغو وقاطعوا مقولاتهم ومصطلحاتهم وفندوا نظرياتهم التي تحتقر شعوبنا وتنوي الشر لأقطارنا جميعا من دون استثناء وقاطعوا مصطلح ومقولة «الشرق الأوسط» ما أمكنكم واستعيدوا مصطلحات الوطن العربي والعالم الإسلامي والأمة العربية والأمة الإسلامية ما أمكنكم لأن في ذلك خلاصنا وحبل النجاة!
مد قوي، حتى الاعتدال في اللغة والخطاب والعقيدة لم يعد مقبولا من متطرفي وضاع الفتن المتنقلة! أهم يستهدفون الإسلام بذاته، بل الإيمان برمته. استمعوا معي جيدا إلى آخر ما أفرزته هذه المدرسة المتوحشة للمحافظين الجدد. فبعد صراع الحضارات ونهاية الجغرافيا والتاريخ وصولا أخيرا إلى «نهاية الإيمان» (The End of Faith) لكاتبهم الجديد سام هاريس، الذي يبدأ مقولته «إن الإيمان بأي شيء هو منافس للتسامح»! ثم يصل ليقول: «إن مشكلة العالم اليوم ليست مع الإرهابيين المتطرفين ذلك أن عداء هؤلاء واضح وصريح وليس هناك من يقول بعدم جواز مكافحته ومحاربته، بل المشكلة مع المعتدلين الذين يلوون عنق النصوص القرآنية من أجل إثبات ما لا يقبل الإثبات: أي أن يكون الإسلام دين تسامح!».
أليس هذا هو ما يذهب إليه برنارد لويس عندما يطالب بضرورة «تحوير أشكال التعبير الثقافي عند المسلمين بغية الوصول إلى إخضاعهم لسلطان الحداثة وإرغامهم على التسليم لها!».
إنها معركة أن نكون أو لا نكون، وليست معركة شيعة أو سنة، كنا أو سنكون! وليست أن نكون عربا أو عجما أو فرسا أو كردا أو تركمانا أو أتراكا أو حتى مسلمين أو مسيحيين بقدر ما نكون رقما من أرقام حداثتهم ورأسماليتهم المتوحشة!
أقول هذا وأعرف كم هو صعب وغالٍ وثمين البوح بالرأي الشجاع والجريء وكم هو أغلى وأثمن الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه لكن المرحلة لن ترحم أحدا!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1640 - السبت 03 مارس 2007م الموافق 13 صفر 1428هـ