قبل ما يقارب الثلاث سنوات وفي إحدى ورش العمل، كانت هذه المرأة تصرخ متباكية على حقوق المرأة المسلمة قائلة: إلى متى هذا التخلف المستمر منذ 14 قرنا؟، اليوم البكاء والعويل يصدر من نفس المرأة ولكن - ويالعجب الله - على الإسلام والعروبة التي يتهددها المد الصفوي.
بالأمس، كانت الخلافة العثمانية محل تنابز بالألقاب لدى بعض هؤلاء الكتّاب، لأنها كما يرددون، احتلت البلاد العربية وصادرت حق العرب في حكم أنفسهم...الخ. ولكون الخلافة العثمانية محل تقدير للإسلاميين الذين تود هذه الفئة من الكتاب تحريضها، ولأن غايتهم هامة كما يظهر من مواقفهم ولو باشعال الفتنة من خلال إيغار صدر هذه الفئة الأعظم من المسلمين، يتم اليوم ذرف دموع تماسيحية غزيرة على دولة الخلافة العثمانية. وتطرح الكاتبة أن الذي أضعف دولة الخلافة العثمانية هو حربها مع الصفويين، هذا مع العلم أن أن الصفويين لم يقيموا دولتهم على أنقاض دولة يحكمها مسلمون آنذاك، فقد غزا المغول بقيادة جنكيز خان إيران وقتلوا الملايين كما يذكر المؤرخون، وحكموها طويلا منذ العام 1220م وحتى القرن الخامس عشر، ولم يأخذ الصفويون الحكم من العثمانيين أصلا ولم يكن للعثمانيين شان بها، وقد حكم الصفويون إيران منذ 1501 وقُضي على دولتهم سنة 1722م عندما غزا محمود خان، وهو شيخ قبيلة أفغاني بلاد فارس واستولى على أصفهان، بينما بقيت دولة الخلافة العثمانية حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى.
كان للكاتبة عدّة مقالات حاولت فيها جاهدة تحويل الوهم إلى حقيقة، ولكنها كما يبدو صدمت أيما صدمة حين تبّين لها أن كل ما سطرته عبارة عن ترهات من العيار الثقيل، فسكتت دهرا عن الإدعاء العلمي فيما يتعلق بإثبات وجود المد الصفوي. وأخيرا هجرت ما كانت تطرحه هي وغيرها سابقا مما تم تفنيده والذي لم ينطل على أبناء هذا الشعب وغيره من شعوب العالم الإسلامي ولم يؤت ثماره الزقومية النكدة، فقدّمت مؤخرا مجموعة جديدة من المزاعم العريضة، تزعم فيها أنها تكشف أصول الصفوية وأهدافها... كل هذا في عنوان واحد وفي أقل من ألفين كلمة، وهو طرح أقرب لكونه هجران وهلوسة من يبحث عن النجاة من مأزق وضع نفسه فيه.
وما السبب من وراء المقال؟ تجيب قائلة: «خوفا على سيادة البحرين وهوية شعبها نتيجة تغلغل هذه الثقافة في نسيج التراث والوعي العلني والباطني لأكبر قطاع من هذا المجتمع»، إذا تود الكاتبة أن تكسب قطاعا كبيرا من الشعب قد تغلغلت ثقافة الصفوية فيه، معرفة بمعالم الصفوية فلا ينساقون وراء أهدافها الخطيرة على سيادة البحرين.
ومنذ متى بدأ المد الصفوي؟ إنه بدأ منذ مجيء الإمام الخميني للحكم، أي أن الشاه الذي أربك المنطقة ورهن البلد للأجنبي وأصبح الشرطي المنّّصب من قبل أسياده الغربيين ليس متهما، وإلا لما سكتت عنه هذه الكاتبة، فقد عاشت في زمنه شابة يافعة، ولم يتقدم بها العمر إلا في الزمن الذي بزغ فيه نجم الخميني، مع العلم أننا لم نسمع بالمد الصفوي إلا بعد سقوط صدام حسين.
ومن هذه الدعاوى الكبيرة، أن التزاوج بين السنة والشيعة توقف منذ 1979، أي في عام انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني، ولا أدري من أين هذا الاستنتاج والتقرير الحاسم، فهل قامت الكاتبة بإجراء دراسة ميدانية مدعومة باحصاءات أثبتت أن هذا التزاوج انقطع أو قل، وبرهنت على أن الناس أحجمت عنه نتيجة تفجر الثورة الإسلامية في إيران، أم بسبب مدّ ديني تكفيري آخر قد تغلغل في صفوف المسلمين؟ هكذا تقرر بدون تردد، فلا دراسة ولا إحصائية ولا نزول ميداني، ولا استمارة علمية. وهذا أسلوب عادة ما يقتفيه الموتورون أو أصحاب مهمات من نوع خاص، يبررها التوسل بكل أسلوب.
ولكن ما هي الصفوية في تعريفها؟ تقول: « الصفوية بإيجاز شديد، هي عقيدة الولاء لإيران عبر انتماء مذهبي مرتبط بنوع من التشيع ظهر مع قيام الدولة الصفوية في بلاد فارس منذ القرن السادس عشر». لقد كانت سابقا تقول إن الصفوية نزعة فارسية عنصرية، ولكن لما تم الرد عليها من قبل من أن الصفويين أصلا تركمان وصلوا للحكم بدعم قبائل تركمانية، هنا سارعت بهذا التعديل كما يبدو. مع ذلك فان الخطل في هذا التعريف الجديد أشد خطرا من الطرح السابق، ومؤشرعلى الإفلاس ووجع الرأس الذي جلبه إعدام طاغية العراق، ومحاولة يشوبها اليأس، تقود إلى تخويف المواطنين من بعضهم بعضا وزعزعة الثقة فيما بينهم، إذ كيف يستقيم الإدعاء بوجود عقيدة دينية شيعية، تعنى بالارتباط بالأرض؟ هذا يعني أن لهذه العقيدة تعاليم تقدّس هذه الأرض وتطالب الأنصار في كل مكان من الدنيا بحمايتها والذود عنها وترسيخ الولاء لها، فأين الأحاديث التي تدّعي قدسية هذه الأرض؟ ثم إن البحث العلمي لا يقبل الإدعاء بلا إثبات من خلال مصدر موثوق يرجع له الباحث ويعوّل عليه وهذا ما لم تتطرق له المدعية، فكل ما طرحته تسوّقه وتكرره يوميا شراذم المنتديات التكفيرية والطائفية. ولم تعلمنا في أي كتاب قرأت عن عقيدة الصفوية، وما هي تعليماتها للمؤمنين بها بخصوص تقديس أرض إيران. أم أن السرية الفائقة بين الأتباع جعلت هذه العقيدة متداولة شفهيا فقط، ولم يطلع عليها في هذا البلد سوى امرأة واحدة؟ نعم، هناك سبيل واحد لإمكانية قبول هذه الدعوى في تعريفها للصفوية، وهي أن تكون المدعية قد عايشت الصفوية منذ بزوغها في القرن السادس عشر الميلادي، فهي شاهدة على عصرها.
وعندما تزعم أن خطورة الصفوية تكمن «في أنها منذ البداية أُلبست ملبسا دينيا، وسرقت من المذهب الجعفري اسمه فأساءت إليه أقصى درجات الإساءة لارتباط الصفوية بنزعة عرقية وعنصرية وباطنية قائمة على الحقد والانتقام من العرب تحت شعارات الثأر لـ»آل البيت»» فهي مطالبة بجانب المصادر التي رجعت إليها، أن تطلعنا على الفروق في الأصول الاعتقادية والفقهية بين الجعفرية والصفوية، لأن السلوك والفكر مرتبط بالعقيدة. غير أن من يعجز من فهم هذه المعاني، يلجأ عادة لمثل هذه الدعاوى الواسعة.
الدولة الصفوية وكل الدول الشيعية الاثناعشرية في التاريخ، ليست دولا شيعية قائمة على أساس ديني، بل في الغالب دول يحكمها منتمون للمذهب الشيعي الاثناعشري، ولم تظهر دولة شيعية دينية يحكمها فقهاء مباشرة سوى في العصر الحديث على يد الإمام الخميني حينما أعاد إخراج «ولاية الفقيه» كنظرية سياسية للحكم. ومن المغالطات التي توسلت بها الكاتبة في محاولاتها، زعمها بان هذه النظرية من بنات أفكار الخميني، وغفلت أو تغافلت عن أن قبل الإمام الخميني كثير من الفقهاء خاضوا في هذه النظرية ومنهم الشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي العاملي (استشهد سنة 786 هـ) في كتابه اللمعة الدمشقية عندما تناول مفهوم النيابة عن الإمام المهدي الذي يعد الركيزة الأساسية التي تستند لها نظرية ولاية الفقيه، وهو عربي ولد بجزين في لبنان واستشهد قبل مجيء الصفويين بأكثر من قرن ونصف، وعندما طرح الشيخ أحمد النراقي (توفي 1829م) نظرية «ولاية الفقيه»، كان قد مضى على انتهاء الدولة الصفوية أكثر من قرن من الزمن، وطبقها الإمام الخميني لأول مرة العام 1979 أي بعد قرنين ونصف من القضاء على الصفويين.
ومع انه قد مضى على ظهور الصفويين أكثر من خمسة قرون، لم يدّع باحث قط بوجود عقيدة تدعى الصفوية تختلف عما هو موجود في كتب الشيعة الاثناعشرية الأصلية التي سبقت وجود الصفوية بما يقارب من عشرة قرون، والمسألة لا تتعدى دخول بعض الطقوس والممارسات التي راقت لبعض الأفراد ممن دخلوا في التشيع لم تكن موجودة سابقا، وقد ينطبق ذلك على بعض الملوك الصفويين كما يرى البعض. وهذه المشكلة تحصل مع كثير من المريدين الجدد الذين يدخلون في هذا المذهب أو ذاك، إذ يدخلون في بعض ممارساتهم طقوس كانوا يمارسونها سابقا قبل أن يدخلوا في الدين أو المذهب الجديد، ومثال ذلك، المشي على الجمر أثناء إحياء عاشوراء الحسين (ع) من قبل بعض الهنود الذين أسلموا وتشيعوا منذ أمد بعيد، ولكن هذه الممارسات لا ترقى لدرجة أن يزعم الزاعمون أنها عقيدة بل يمكن اعتبارها ممارسات شاذة.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1640 - السبت 03 مارس 2007م الموافق 13 صفر 1428هـ