الحديث عن العلاقة بين الدين والمواطنة بمعنى الشراكة المتكافئة بين أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات هو حديث بالغ التعقيد، مع إنه قد يختزله البعض في دعوى أن الدين لا يتعارض مع حب الوطن ويسوق النصوص والشواهد على ذلك نظير الحديث المدعى روايته عن النبي (ص): حب الوطن من الإيمان.
ومع إن المحدثين يشككون في صحة هذا الحديث، بل جزم الألباني بأنه موضوع كما نقل عنه، وقال بعضهم إن معناه عجيب، إذ لا تلازم بين حب الوطن وبين الإيمان! ولكن قضية حب الوطن ليست هي المعضلة المستعصية على الحل، فهو أمر تقضي به الفطرة السليمة والعقل الواضح، بل الحديث الأهم هو عن التوفيق بين اقتضاءات الوطنية وما تستتبعه من ولاءات وسلوكيات قائمة على أساسها وبين اقتضاءات الولاء الديني الذي يتقاطع معها في مساحة كبيرة. فالمنظومة الفكرية الدينية تقتضي عدم تساوي المسلم وغير المسلم في الحقوق المدنية، وكذلك تستدعي امتداد الولاء الى مساحات خارج الوطن، فقد تفرض الضوابط الشرعية وجوب طاعة المرجعية الدينية بغض النظر عن انتمائها الجغرافي، وتبرز هذه الإشكالية بوضوح في الدول الإسلامية ذات التلوينات المذهبية والدول الغربية التي توجد فيها الجاليات الإسلامية بكثافة مثل بريطانيا وفرنسا.
وهنا تتباين الآراء الى حد كبير، فيوجد من يدعي بأن المواطنة من البدع المحرمة التي تقوم على إنكار دور الدين في تصريف شئون المجتمع واعتباره حالة روحانية فردية، فهي تستبدل الحاكمية الإلهية بنظرية العقد الاجتماعي كما هو عند مفكرين وفلاسفة غربيين من أمثال روسو وجون لوك وفولتير، مع إن المعلوم من الدين بالضرورة أن الرابطة الإيمانية هي الرابطة الوحيدة التي اعتبرها الشرع الإلهي الواجب الإتباع، فقد فرق بين الأب وابنه وبين الزوج وزوجته بحسب إيمانهم أو كفرهم وأمر بتولي المؤمنين ونهى عن تولي الكافرين ومايز بين المسلم وغيره حتى في دية القتل، فإذا تعارضت المصلحة الدينية مع المصلحة الاجتماعية والوطنية فالمصلحة الدينية مقدمة على كل المصالح الأخرى وقد قال الله تعالى «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم» (البقرة: 216) فهذا رأي يقابله رأي آخر يقول إننا لا نتعقل تشريعا يؤدي الى الفتنة والتفرقة وينتج تضادا وتضاربا بين أبناء الوطن الواحد الذين ينتمون الى مرجعيات دينية مختلفة داخل الوطن أو خارجه ما من شأنه أن يعطل مصالح المجتمع ويجعله في دائرة من العنف القولي والفعلي، وعليه فلا بد من العمل على تفكيك تلك البنى التي تجعل من الدين أساسا للعلاقات السياسية والاجتماعية. ويعني ذلك الفصل بين الدين والدولة بمعنى الاقتصار على المرجعية الدينية بالمعنى القيمي والأخلاقي العام من دون أن يحكمَ الدينُ في الحياة اليومية، فذلك - في نظر هؤلاء - هو شرط تحقيق المواطنة المبنية على التكافؤ والمساواة في الحقوق بغض النظر عن الدين والمذهب.
وهذا الرأي - لدعاة الفصل - يستتبع سؤالا آخر وهو: إذا كنا مضطرين للفصل بين الدين والدولة فهل يمكن تقرير ذلك على أساس اجتهاد ديني ينطلق من النص ذاته كما حاول أمثال علي عبدالرازق ومحمد أحمد خلف اللّه؟ أو إن الفصل بين الدين والدولة غير ممكن أصلا إلا بالقفز على المنظومة الدينية برمتها وذلك لأنه لا يمكن تجاوز النصوص الدينية الكثيرة الواردة في مجالات السياسة والاجتماع والعلاقات البينية ومنها أحكام أهل الذمة والديات والولاء والبراء (تولي المؤمنين والبراءة من الكافرين)، فهذه النصوص لا مجال لأرخنتها، لأنها مطلقة من حيث الزمان والمكان، كما إنه لا مجال لفصلها عن الحياة وذلك لأنه سيكون مخالفا لطبيعة مضامينها فكأننا نريد حينئذ أن نجردها مما هي في صدده أساسا، وعليه فلا مجال - في نظر هؤلاء - للمصالحة بين الحياة العصرية وبين الأرضية التي انطلقت منها تلك النصوص، وذلك يعني أننا في مفترق طريقين لا ثالث بينهما! هكذا يحلو للبعض أن يقول، ولكن الحقيقة هي ان المشكلة لا تنتهي بالتنظير المتعالي على الواقع الفكري والثقافي، وبالتالي فأي تنظير للفصل أو الوصل بين الدين والدولة سيخضع لا محالة للواقع الثقافي وما تفرضه القوى الفاعلة في المجتمع بكل توازناتها المادية والمعنوية.
ويطرح البعض حلا للمشكلة من خلال التقرير بأنه يمكن تجاوز مضامين النصوص الواردة في هذا السياق من خلال آلية ثانوية اضطرارية تندرج في فقه النوازل - فقه المستحدثات - وهذه الآلية تتلخص في اعتبار أن مراعاة اقتضاءات المواطنة هو من صالح الدين أو المذهب في الظروف الراهنة، فمن اللازم العمل داخل الشراكة الوطنية حفظا لتلك المصالح الأهم، والملفت هو ان هذه الطريقة من التفكير يتبناها بعض أصحاب الفكر من الإسلاميين المتنورين في الغرب ويعتبرون ذلك تقدما في الوعي على السلفيين النصوصيين الذين لا يعبئون بمقتضيات الزمان والمكان كالذين دعوا الى تطبيق الشريعة الإسلامية في بريطانيا! وهو كذلك ما تبرر به غالبية المواقف سواء المتشددة تجاه السلطة أو الداعية الى التعامل والتعاون معها، وهذا المنهج يندرج تحت ما يسمى «فقه القوة وفقه الضعف» أو «فقه الأكثرية وفقه الأقلية» فتسوَّغ أمور عندما نكون في موقع الأكثرية والقوة ولا تسوَّغ تلك الأمور ذاتها عندما نكون في موقع الأقلية والضعف، فهو إذن لا يخلو عن معيارية معيبة وذاتية ضيقة وذرائعية غير محببة، إذ إنه لا ينفتح على حق الآخر وأخذه في الاعتبار، بل ينغلق على الذات ومصالحها فحسب، في حال إن الاستغراق في هذا الاتجاه من شأنه أن يوحي للآخرين بأننا لا نبالي بمصالحهم أو من الممكن ان نقفز عليها في أول فرصة سانحة، وذلك أحد دواعي فقد الثقة وإرباك العلاقة وتفاقم حالات الشد والجذب بين الأطراف.
وقد حاول المرحوم الشيخ شمس الدين تجاوز هذه الإشكالات في مجموعة من كتبه - وكنت ولاأزال أدعو الى التدبر في فكر هذا الإمام فهو بحق من رواد التجديد الفكري والفقهي - حيث تبلور مشروعه في رفض التقسيمات الطائفية والمطالبة بما سماه «الديمقراطية العددية» القائمة على اعتبار المواطن الفرد هو الوحدة القانونية في العملية الديمقراطية بدلا من الطائفة، وقد قرر في كتابه «في الاجتماع السياسي الإسلامي» بأن «اعتبار مسائل الحكم السياسي والدولة والنظام تشريعا إلهيّا وتكليفا شرعيّا غير قابل للأخذ والرد استنادا الى نصوص غير مسلّمة الدلالة يجعل هذه المسائل قضايا غيبية تعبدية محضة، ومن شأنه إضعاف موقف الإسلاميين من فقهاء وعلماء دين ومفكرين في مواجهة الأطروحات الأخرى، ومن الأمور الواضحة عند كل فقيه مستنير متبحّر أن مسائل الحكم والولاية والمعاملات والأحكام المتعلقة بسير المجتمع وتنظيمه إنما هي مسائل بعيدة كل البعد عن التعبد المحض»، وذلك يعني أنها أحكام تدبيرية تخضع للضوابط العقلانية تحت إطار شرعي قيمي عام، وفي كتاب «الأمة والدولة والحركة الإسلامية» دعا إلى «اندماج العرب والمسلمين في مشروع النظام الدولي مع إعداد الذات الذي يتطلب المصالحة والمهادنة الداخلية على جميع المستويات وفي مختلف الاتجاهات»، وقد وجه في هذا الكتاب رسالة أساسية الى الشيعة في العالم مفادها «توصية الشيعة بالاندماج الكامل في محيطهم الوطني والقومي والإسلامي والالتزام بحفظ النظام العام والسلم الأهلي في أوطانهم والابتعاد عن أي سلوك سلبي انكفائي أو هجومي»، وقد أكد - رحمه الله - على هذا المضمون في كتاب الوصايا والذي هو مجموعة وصايا سياسية واجتماعية وثقافية موجهة الى عموم الشيعة في مختلف الأوطان سجلها بصوته قبل نحو أسبوعين من وفاته في العاشر من يناير/ كانون الثاني 2001 إذ قال: «أوصي أبنائي وإخواني الشيعة الإمامية في كل وطن من أوطانهم وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم وأن لا يميزوا أنفسهم بأي تمييز خاص وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعا خاصا يميزهم عن غيرهم» وقد أكد كذلك في كتابه المذكور ضرورة أن يلتزم حكام المسلمين بشروط الحرية والديمقراطية ومراعاة حقوق الأمة وذلك لكي تتوافر الأرضية المناسبة لتحقيق المواطنة الصالحة على أرض الواقع.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1638 - الخميس 01 مارس 2007م الموافق 11 صفر 1428هـ