أصيبت النخبة العربية (الإسلامية) بصدمة ثانية في نهايات القرن التاسع عشر. الصدمة الأولى كانت ثقافية حضارية ولّدت ذاك القلق النفسي والتوتر الذهني في العقل العربي فلجأت النخبة الى صوغ مفاهيم تحاكي الغرب وإنجازاته وتطالب السلطات المحلية بالتقليد ظنا منها أن هذا التوجه يعطي فرصة جديدة للأمة للتطور واللحاق بالتقدم الاوروبي.
الصدمة الثانية أعنف. فهي كانت سياسية في جوهرها وانعكست سلبا على طموحات النخبة وخصوصا ذاك الجيل الذي ورث النشاط الثقافي والتربوي والتنظيمي الذي أسسه جيل الطهطاوي. الصدمة السياسية كانت قوية لأنها أصابت النخبة بدهشة ولّدت مفارقات في التعامل مع تلك الهجمة الاستعمارية المباشرة التي قادتها فرنسا من الجزائر الى تونس، وبريطانيا التي تذرعت بالديون وثورة أحمد عرابي لاحتلال مصر.
مشكلة النخبة العربية آنذاك تمثلت في تجربتها البسيطة وبراءة وعيها والنقص في المعلومات. فهي مثلا لم تستطع أن تميز بين تلك الأفكار التي ينتجها المفكرون والفلاسفة وعلماء الاجتماع وتلك الأسلحة التي تنتجها المصانع. وعدم القدرة على إدراك هذا الاختلاف بين القوتين ساهم في ارتباك النخبة العربية وزاد من تنافرها وضياعها.
أوروبا آنذاك كانت قطعت شوطا تاريخيا في التقدم ونجحت في تشكيل دول قومية لعبت دورها في قيادة السوق من طور التشرذم والتفكك (ممالك ودوقيات وإمارات وجمهوريات مدن) الى طور التوحد الاقتصادي وتشكيل قوة مركزية تراقب السوق وتبحث عن مصادر (خامات، ثروات طبيعية، ومواد أولية) لتلبية حاجات النمو والتفوق.
هذا التقدم العمراني الذي تساوق في نموه السياسي مع التقدم المعرفي أدركته النخبة العربية (الإسلامية) متأخرة وبعد فوات الآوان. فأوروبا لم تكن مجرد مدارس تنتج الأفكار وإنما معامل تصنع البضاعة. والبضاعة (السلعة) بحاجة الى أسواق لتصديرها وقوى بشرية لاستهلاكها وأيضا بحاجة الى أسواق طبيعية لنهب خيراتها وثرواتها.
تأخرت النخبة في اكتشاف أهمية الدولة «القومية» ودورها في تشكيل قوة سياسية قادرة على التخطيط والتفكير والتنافس مع الدول الأخرى لحماية مصالحها الوطنية من خلال احتكار السوق القارية أو البحث عن أسواق خارج أوروبا تلبي حاجة الدولة للحفاظ على عناصر القوة والسيطرة والهيمنة. والتأخر في اكتشاف قانون المصلحة (التنافس والسيطرة) جعل من النخبة العربية (المسلمة) مجرد قوة ايديولوجية هامشية تقرأ وتترجم وتنقل ولا تفكر بتلك الآليات التي تصنع القوة وتطور عناصرها باتجاه المزيد من القوة. ولهذا أصيبت النخبة بحال من الدهشة التي زاوجت بين الصدمتين النفسية والسياسية.
احتلال تونس ومصر شكل بداية جديدة للتعامل بين نخبة تائهة تبحث عن هوية بديلة وبين قوة هائلة مجهزة بالمعلومات وتملك المخططات والمشروعات الجاهزة لتقسيم المنطقة العربية/ الإسلامية وتفكيكها الى دويلات مناطق أو طوائف. وقرار الاحتلال لم يكن وليد ساعته بل هو نتاج تحولات عفوية ومبرمجة أدت منهجيا الى بلوغ العلاقة بين الغرب والعرب الى حال من التأزم والاصطراع الدائم.
فكرة الاحتلال والتقسيم وتوزيع المناطق العربية على دول أوروبا القومية بدأت بالنمو في القرن السادس عشر إلا أنها أخذت صفة الاتفاقات والتفاهمات في مطلع القرن التاسع عشر وتحديدا بعد مؤتمر فيينا في العام 1815 الذي أعقبه مؤتمر فيرونا في العام 1822. ففي ذاك المؤتمر ظهر للمرة الأولى مصطلح «المسألة الشرقية». وكان المقصود به تلك المناطق الواسعة التي تتبع السلطنة العثمانية ونفوذها السياسي في أوروبا الشرقية والبلقان والديار العربية. آنذاك أخذت أوروبا تستخدم «المسألة الشرقية» للدلالة على تلك المواقع الجغرافية الاستراتيجية والغنية بالثروات والخامات التي تقع في الجهة الشرقية من القارة. وكانت أوروبا بدأت تكتشف قوتها وتنتبه الى ضعف السلطنة التي وصفتها بـ «الرجل المريض». وحين يصاب الرجل بالمرض فمعنى ذلك أنه بحاجة الى دواء للعلاج، وإذا فشل العلاج لا بد من الكي أو البتر أو القطع لمنع المرض من الانتشار وإنقاذ الرجل من الموت.
منذ تلك الفترة بدأت مخططات التقسيم (البتر والقطع) توضع على المشرحة الدولية إلا أن تنفيذها تعرض للتأخير لأسباب أوروبية وإسلامية. فأوروبا كانت متخوفة من طموحات بعضها وأيضا كانت خائفة من نمو قوة عثمانية مضادة تعطل عليها احتمالات التمدد الجغرافي.
شكل التنافس الأوروبي (فرنسا وبريطانيا) بين 1830 و1840 على وراثة الرجل المريض (المسألة الشرقية) نقطة توتر في القارة زادت من تنافرها نمو قوة روسيا القيصرية وطموحاتها السياسية والعسكرية في أوروبا الشرقية والبلقان والبحر الأسود. ثم ازداد التوتر بعد نشوء قوة أوروبية جديدة في عهد المستشار بسمارك الذي قاد الوحدة القومية الألمانية في العام 1870. هذا التنافس بين القوى الأوروبية الكبرى أعطى فرصة زمنية للسلطنة بالتحرك لإعادة بناء قوتها العسكرية وهيكلة الدولة دستوريا لمنع التصدع الداخلي. ولكن محاولات التجديد والتحديث والإصلاح التي قادها السلطان محمود الثاني في السلطنة والباشا محمد علي في مصر انتهت الى التصادم مع دول الغرب ثم التصادم بين السلطنة ودولة الباشا وأخيرا تصادم كل طرف مع قوة موازية في أوروبا. وأدى مجموع هذه الاصطدامات الى فشل حركات الاصلاح ووقوع السلطنة في أزمة ديون بسبب الحروب ووقوع ورثة دولة محمد علي في مصر في مشكلات مالية بسبب التبذير والانفاق وعدم السيطرة على رياح التغيير التي عصفت بالمنطقة بعد اقتتاح قناة السويس.
افتتاح القناة في العام 1869 اختتم مرحلة تاريخية وأسس قواعد انطلاق لمرحلة تاريخية جديدة. فقبل الافتتاح كانت أوروبا دخلت في فترة اصطراع اجتماعي في العام 1848 شهدت خلاله الدول الصناعية تلك الاضطرابات الناجمة عن التطور الاقتصادي السريع فظهرت النقابات والأفكار الاشتراكية التي تطالب بالإصلاح والتوزيع العادل للثروات وإعادة النظر في «العقد الاجتماعي» بين الدولة والمجتمع. وشكل هذا التغيير في العلاقة بين السلطة والجماعات المنتجة قوة ضغط سياسية على الدول القومية لتسريع خطوات البحث عن مصادر إضافية للثروة يمكن استخدامها لرشوة «الطبقة العاملة» وإغراقها في نزعة استهلاكية مغلفة بنوع من الرفاهية الاجتماعية.
التحول الجديد في نمط العلاقة الدستورية بين الدولة والمجتمع في أوروبا دفع الحكومات الى ابتكار آليات جديدة تبرر نزعة السيطرة والتوسع خارج الحدود القومية مستفيدة في ذلك من تطورين: الأول نمو قوة أوروبية منافسة (ألمانيا) والثاني نمو قوة شبه أوروبية وشبه آسيوية (روسيا) على خط المواجهة في قضم الأراضي العثمانية.
التنافس الأوروبي (الفرنسي البريطاني) مع روسيا ساهم في توليد شرارة حرب القرم في العام 1853 التي انتهت الى توقيع معاهدة باريس في العام 1856 التي منعت موسكو من تحقيق أهدافها وضمنت وحدة السلطنة الى فترة قصيرة في انتظار تبلور خطة بديلة لا تعطي فرصة لروسيا القيصرية بالانقضاض مجددا على أراضي «الرجل المريض».
التنافس الفرنسي البريطاني مع ألمانيا البسماركية كان أقوى وأشد عنفا سواء على مستوى توليد الاضطرابات في أوروبا أو على مستوى التنافس الاقتصادي (المالي والتقني) في نسج علاقة موازية مع السلطنة وما تتبعه من ملاحق تتصل بأوراق «المسألة الشرقية».
نمو روسيا في شرق القارة وألمانيا في قلبها ساهم في تأخير تنفيذ مخططات التقسيم الى مؤتمر برلين في العام 1878. فهذا المؤتمر عقد في ضوء تحولات دولية في أوروبا وعلى ضفافها تصادفت مع تحول إقليمي كبير وهو افتتاح قناة السويس. فالافتتاح الذي جرى قبل نحو 10 سنوات فتح شهية الدول الأوروبية على منطقة «المشرق العربي» التي تعتبر قلب «الرجل المريض» أو ما يعرف سابقا بالمسألة الشرقية.
كل هذه المتغيرات الدولية والأوروبية والإقليمية ترافقت مع مشكلات إثنية وقومية وطائفية ومذهبية أخذت تعصف بالسلطنة وتزعزع استقرارها. فالحرب الأهلية الطائفية المذهبية التي نشبت في لبنان وانتهت بتوقيع بروتوكول العام 1864 بضمانة فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا (ألمانيا) لم تكن بعيدة في مناخاتها عن «المسألة الشرقية» وخطة تقسيم السلطنة من خلال تفريغها من مقومات القوة وتجويف مصادرها من عناصر التماسك الداخلي. كذلك الحروب الدينية القومية التي انفجرت في العام 1875 في البلقان ضد نفوذ السلطنة العثمانية لم تكن خارج سياق مخطط تقسيم الأراضي ضمن صياغات جديدة تعزل اسطنبول عن أوروبا.
شكلت هذه المتغيرات الدولية والأوروبية والإقليمية عناصر قوة خارجية ضغطت على السلطنة وأجبرتها على اتخاذ خطوات فوقية متسرعة لإنقاذ «الدولة الإسلامية» من التفكك العنصري (القومي) والأقلي (الديني) والأهلي (الطائفي والمذهبي). وأدى الضغط الى اضطرار السلطان عبدالحميد الثاني الى الإعلان عن ولادة الدستور العثماني الجديد في العام 1876 معربا عن استعداده لتأسيس علاقات مختلفة مع القوميات والأقليات التي تنتمي الى رعاية السلطنة.
حتى هذه الخطوة الإصلاحية لم تلقَ الاحترام المطلوب من الدول الأوروبية الطامعة بالسيطرة على معابر النفوذ الجغرافية (التجارية) والاستيلاء على الثروات والخامات. فبعد هذا القرار السلطاني لجأت الدول الأوروبية الى توقيع ما سمي بـ «برتوكول لندن» في العام 1877 طالبوا فيه السلطنة باحترام حقوق المسيحيين وتحسين وضعهم. وجاءت المطالبة الأوروبية على إيقاع هجوم جديد شنته روسيا القيصرية على ضفاف السلطنة في القرم في العامين 1877 و1878 ما اضطر السلطان الى طلب الهدنة العسكرية من موسكو وتوقيع معاهدة صلح روسية عثمانية في العام 1879.
فكرة الاحتلال والتقسيم واجتياح المناطق العربية والإسلامية لم ترتسم ملامحها فجأة ومن دون مقدمات تاريخية انتجت خطوط وحدود خريطة المنطقة التي تبلورت لاحقا في سلسلة اتفاقات وأوراق. فالمخططات كانت قديمة ومعالمها الأولى بدأت بالارتسام منذ معاهدة فينيا (1815) وصولا الى مؤتمر برلين (1878). وهذا النوع من التفكير الاستعماري لم تدركه آنذاك النخبة العربية (المسلمة) حين تعاملت مع أوروبا من خلال محاكاة إنتاجها المعرفي (الثقافي والفكري والفلسفي) ولم تقرأ جيدا تطورها العمراني وما طرحه من مهمات جديدة على «الدولة القومية» ونزوعها نحو تأمين حاجات سوقها النامية ومتطلبات رفاهية جمهورها وتلبية حاجاته الاستهلاكية.
الاطلاع على المعارف الأوروبية لم يكن كافيا لتوضيح صورة العلاقات من كل جوانبها. فهناك جوانب أخرى تتصل بالعمران والتنافس وصون المصلحة ومنع انزلاق الدولة نحو الحروب الأهلية كما حصل خلال الاضطرابات الاجتماعية والثورات العمالية في 1848 وهو العام الذي خرج فيه «البيان الشيوعي». فالدولة القومية الأوروبية بعد تلك الموجة من الاضطرابات سارعت الى افتتاح أسواق جديدة لتلبية حاجات الداخل.
احتلال فرنسا لتونس وبريطانيا لمصر أحدث صدمة سياسية أضيفت الى تلك الدهشة النفسية التي تعرضت لها النخبة العربية من خلال الاحتكاك المباشر بين قوة تاريخية تتراجع عن مواقعها وقوة صاعدة تبحث عن مواقع جغرافية لبسط هيمنتها على التاريخ. فالصدمة عنيفة الى درجة انها كانت كافية لإشعال الغضب والكثير من الثورات في وقت أخذت النخب تبحث عن مخارج لإنقاذ الأمة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1638 - الخميس 01 مارس 2007م الموافق 11 صفر 1428هـ