تتداخل المناورات العسكرية الأميركية بالمناورات السياسية. في العراق تواصل إدارة واشنطن تعزيز قواتها الميدانية بذريعة تنفيذ «الخطة الأمنية» بالتعاون مع حكومة المالكي. وفي الخليج يستمر تحشيد القوات البحرية وتعزيزها بالسفن والكاسحات وحاملات الطائرات والصواريخ بذريعة منع النفوذ الإيراني من التمدد إقليميا. وفي البحرين الأحمر والأبيض وشرق أوروبا تتجه واشنطن نحو توسيع زرع القواعد ونقاط الارتكاز ونشر قواعد الصواريخ بذريعة مكافحة خلايا الإرهاب والحد من نموها في القرن الإفريقي.
كل هذه المناورات العسكرية لجأت إليها واشنطن في الشهور الثلاثة الأخيرة تحت عناوين دفاعية. فالإدارة تؤكد يوميا على أن تلك الحشود للدفاع وأنها لا تخطط للهجوم ولا تفكر بالاعتداء على القوى الإقليمية والأطراف المعنية مباشرة أو مداورة بالموضوع.
مقابل هذه الحشود والتعزيزات تواصل إدارة جورج بوش مناوراتها السياسية مستخدمة لغات مختلفة اللهجات وتصريحات ملغومة أو مجبولة بازدواجية المواقف والمعايير. في فلسطين هناك مناورة سياسية دشنتها وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في زيارتها الأخيرة. فهي ادعت أنها كانت تحمل معها مشروع حل سلمي للازمة، ولكنها تذرعت بتفاهم مكة الذي جرى بين فتح وحماس لسحبه من التداول. وتذرعت رايس بالتفاهم للادعاء بأن مسألة الحل الدبلوماسي توقفت بانتظار ما ستسفر عنه اللقاءات الفلسطينية الهادفة إلى تشكيل حكومة ثنائية وطنية. فالوزيرة طالبت الأطراف بأن تعترف بـ «إسرائيل» وتنبذ العنف وتقبل بالشروط التي تضعها تل أبيب حتى تتشجع واشنطن وتعاود استئناف اتصالاتها.
في لبنان مناورة أيضا. فالوزيرة ذكرت مرارا أن هذا البلد الصغير أصبح الآن في قلب معادلة الصراع ووصفت ساحته بأنها على خط الدفاع الأوّل بين محوري الاعتدال والتطرّف. بكلام آخر تتجه واشنطن إلى تحويل لبنان من جديد إلى ملعب مكشوف تتخاصم على أرضه القوى وتتقاتل وتتصارع حتى ينكشف المشهد ويرفع الستارعن المسرح. فالبلد إذا لم يخرج من عنق الزجاجة، وإنما أدخل فيها مجددا بانتظار ما ستسفر عنه المباريات الإقليمية من أهداف سياسية.
في العراق هناك مناورات ميدانية محليّة وإقليميّة. ميدانيّا تتجه واشنطن إلى إعادة احتلال بلاد الرافدين اعتمادا على الحشد الإضافي للقوات المحتلة وبالتعاون مع قوات حكومة المالكي التي جرى تدريبها وتجهيزها. وإعادة الاحتلال يجري تسويقه سياسيّا من خلال تخويف المنطقة (دول الجوار) من نمو قوة إيران الإقليميّة وفي الآن يتم تخويف إيران من خلال ملاحقة ما تراه واشنطن مناطق نفوذ لقوتها. وترى واشنطن أن هذا التكتيك المزدوج الأهداف يلبي مصالحها في الفترة المقبلة حتى تتوصل إلى قرار نهائي بشأن وجودها العسكري في بلاد الرافدين.
في الخليج أيضا هناك مناورات أميركية. فواشنطن تدّعي أنها توصلت إلى اكتشاف معادلة إقليميّة جديدة في المنطقة يمكن التعامل معها والبناء عليها لتشكيل جبهة من المعتدلين تملك من الإمكانات المادية والاستعدادات النفسيّة لتقبل اقتراحات أميركية تضمن مصالحها وتؤمن الاستقرار وتمنع انتشار الفوضى.
إعادة هيكلة
كل هذه المناورات تصبّ في النهاية في سياسة إعادة هيكلة المنظومة الأمنية في مسرح «الشرق الأوسط». فالإدارة الأميركية اتجهت، منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات النصفية التشريعيّة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وصدور تقرير بيكر - هاملتون، نحو صوغ استراتيجيتها العسكرية في إطار جديد يتناسب مع الضغوط الدولية والحسابات الداخليّة. فهي مثلا أزاحت عن الشاشة الإعلاميّة تلك الوجوه التي لعبت دورا في الفترة السابقة فأبعدت دونالد رامسفيلد عن وزارة الدفاع وجون بولتون عن الأمم المتحدة وأخرجت تلك الأسماء في الدفاع والخارجيّة والهيئات الاستشاريّة حتى تكسب الوقت وتوجّه رسالة تكون مقنعة لدافع الضرائب (الناخب) أن واشنطن تستعد لتغيير سياستها. وهي أيضا سحبت من التداول اليومي تلك التصريحات النارية التي دأبت على تكرارها منذ ست سنوات. كذلك أحجمت عن توزيع شهادات حسن السلوك أو التهديدات التي كانت تطلقها يوميّا ضد أنظمة معينة.
منذ نحو ثلاثة أشهر اتجهت واشنطن إلى تعديل لغتها وتهذيب ألفاظها وتغليب شعارات دفاعية على سياستها الهجوميّة. فإدارة بوش الآن تجتهد لإقناع الرأي العام بأن استراتيجيتها تبدّلت وأنها انتقلت من الهجوم إلى الدفاع وأنّها أقلعت عن سياسة التقويض وفرض الإصلاح بالقوة ونشر الديمقراطيّة وثقافة التسامح وحقوق الإنسان وتمكين المرأة. وأهم من ذلك أخذت واشنطن ترسل إشارات عن استعدادها للقبول بالأمر الواقع والتعامل بجدية مع موازين القوى وإعادة الاعتبار للأصدقاء والحلفاء وترك مساحة للقوى الإقليميّة للتحرك ضمن هامش يسمح لها بلعب دور محدود يتناسب مع المهمات المطروحة.
كيف يمكن فهم هذه المناورات العسكريّة والسياسيّة؟ هل أميركا تغيّرت فعلا وانتقلت من طور الهجوم إلى طور الدفاع؟ وهل الولايات المتحدة وصلت إلى طريق مسدود ولم يعد أمامها من خيار سوى الحدّ من الخسائر واحتواء سلبيات الفشل؟
ظاهريا يمكن القول إن هناك لغة إعلاميّة أخذت تتبلور في خطاب دبلوماسي يميل إلى المرونة والابتعاد قدر الإمكان عن التحريض والتشنج. كلمة الإصلاح مثلا لم تعد ترد في تصريحات المسئولين. التحديث والتطوير والتمكين والإنماء والتغيير وتعديل السلوكيات كلها كلمات سقطت من قاموس التخاطب الأميركي مع دول المنطقة العربية أو «الشرق أوسطية». كذلك لم يعد «جهابذة» الإدارة يستخدمون تلك الألفاظ النابية وما يتبعها من سلسلة تهديدات عسكرية بقصد الابتزاز السياسي. فهناك ما يشبه إعادة تدوير الزوايا بهدف التهدئة وزرع الاطمئنان والظهور أمام العالم بأن واشنطن لا تنوي الشر وأنها أقلعت عن تلك السياسة التي تقوم على تكتيك الكسر والتحطيم والتقويض والإنزال الجوي على شعوب المنطقة.
هذا على مستوى الشكل. ولكن باطن الأمور يكشف عن تحركات عسكرية ومناورات سياسية وتكتيكات أمنية تصبّ في إطار إعادة هيكلة الاستراتيجيّة من دون التخلي عن ثوابتها. فالكلام عن إعادة النظر لم تظهرعلى الأرض صوره الميدانيّة. والتصريحات الهادئة أو تلك الداعية للحوار لم تنفرج حتى الآن عن خطة مشروع مضاد لنهج متبع ضد المنطقة ومصالحها. وعملية الانتقال من الهجوم إلى الدفاع لم ترتسم معالمها على المستوى العسكري. فكل الأمور لاتزال تسير ميدانيّا كما كان حالها في السابق. الشيء الوحيد الذي تغيّر نسبيا هو استبدال مصطلحات بأخرى وتعديل ألفاظ وتدوير تصريحات والتخفيف من حدّتها.
هناك مناورات إذا. فما حصل ويحصل في فلسطين ولبنان والعراق والخليج ،وكل ما يتصل في المحيط الإقليمي لم يتطوّر حتى الآن إلى سياسة جديدة. فالتصريحات الأخيرة لا تدل على أن الولايات المتحدة تتجّه إلى صوغ استراتيجيّة مرنة معقولة ومقبولة بل تبدو أنها أقرب إلى المناورة الإعلاميّة التي تريد أن تكسب الوقت لإعطاء فرصة للطاقم الجديد في الإدارة ؛ليعيد النظر في الشكليات بينما هو يعمل ميدانيا على إعادة هيكلة المنظومة الأمنيّة لتتناسب مع مهمات لم تتضح غاياتها النهائية بعد.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1637 - الأربعاء 28 فبراير 2007م الموافق 10 صفر 1428هـ