أحدثت حركة الضباط الأحرار في مصر ديناميات سياسية رفعت من معنويات شعوب المنطقة العربية وجعلت من الفكرة القومية حركة جماهيرية تتعاطف مع مصر الناصرية في مواجهة العدوان الثلاثي (الفرنسي، البريطاني، الإسرائيلي) والتحديات الاستعمارية والصهيونية. وشكل لبنان ساحة متقدمة في هذا السياق العام استفادت منه حركة القوميين العرب وحزب البعث. فالحركة أعلنت دعمها للمشروع الناصري القومي والاجتماعي ووجدت فيه ذاك البديل المتقدم على سياسات عربية تقليدية ومترددة في اخذ المبادرة. وحزب البعث أعلن بدوره عن تأييده لمصر الناصرية التي أخذت تشق طريقها إلى المنطقة من المدخل القومي المشترك.
لبنانيا انقسمت الطوائف أهليا في رؤيتها للمشروع الناصري. المسلمون عموما وقفوا مع ثورة عبدالناصر ومشروع التوحيد القومي العربي. المسيحيون عموما وجدوا في الفكرة سياسة إقليمية تريد الهيمنة على المشرق العربي وتهدد إلى حد ما الكيانات التي تشكلت في المنطقة منذ العشرينات.
الانقسام اللبناني على المشروع الناصري ولد تجاذبات أهلية وضعت الطوائف في معسكرين متقابلين. الحزب الاشتراكي (كمال جنبلاط) أعلن تحالفه مع مصر عبدالناصر. حزب النجادة وقف بقوة مع الحركة القومية الناصرية. بينما ترددت الأحزاب اللبنانية الأخرى في إعلان موقف نهائي ولكنها لجأت إلى طرح سلسلة ملاحظات نقدية على الموقف المصري الرسمي من السياسات المحلية. حزب الكتائب خاف على الفكرة اللبنانية الفتية من الجماهير الإسلامية. وحزب الكتلة الوطنية كان غير قادر على ابتلاع مشروع عربي بهذه الضخامة. الحزب السوري القومي الاجتماعي عارض الناصرية من موقع مختلف. فالقومي لم يقرأ المشروع من زاوية طائفية (مسيحية لبنانية) وإنما انتقد المسألة من رؤية قومية (سورية) مضادة ترى في الوحدة العربية حركة انفلاشية وفي الناصرية فوضى شعبية غير منظمة على فكرة واضحة ومتماسكة.
هذه المواقف السياسية اللبنانية تلونت طائفيا بحركة الواقع والياته الأهلية، الأمر الذي حشر الناصرية في دائرة إسلامية وقطع عليها الطريق للتحول إلى مشروع سياسي يجذب المسيحيين إلى جانبه. هذا من جهة الطوائف المسيحية. أما من جهة الطوائف المسلمة فقد حصل ما يشبه التشطير الايديولوجي (الطائفي) للحركة الناصرية.
الدروز تعاطفوا بقوة مع عبدالناصر بسبب تحالف جنبلاط (الأب) معه فانتشرت الفكرة القومية في الشارع ولكنها لم تتحول إلى تنظيم مستقل أو منفصل عن الحزب التقدمي الاشتراكي. فالحزب الجنبلاطي بقي المهيمن على الشارع الدرزي بينما الناصرية اخذ بها بعض المثقفين بصفتها حركة اجتهاد معاصرة وحيوية. الشيعة في مختلف مناطقهم أيدوا المشروع القومي الناصري وتعاطفوا معه. ولان الطائفة الشيعية آنذاك لم يكن لها مشروعها الخاص ولا توجد فيها تلك الأحزاب المناطقية كما هو حال المسيحيين والدروز اتجهت النخبة نحو الالتحاق بحزب البعث أو بحركة القوميين العرب. الطائفة السنية كانت الأكثر تعاطفا مع مصر الناصرية والأكثر حماسا لمشروع عبدالناصر وخطبه الثورية. حزب النجادة اندمج في الحال الشعبية إلى درجة الذوبان والاختفاء عن الخريطة السياسية، وأخذت تظهر إلى جانبه وعلى حساب مده الجماهيري تنظيمات ناصرية صغيرة تقودها عائلات سياسية أو قبضايات أحياء أو رموز جديدة أنتجتها تلك المتغيرات الثقافية والنفسية التي ولدتها القاهرة في الشارع السني اللبناني.
ابرز المستفيدين من شعبية الناصرية آنذاك كان حزب البعث في سورية وحركة القوميين العرب في لبنان. فعبدالناصر أعطى القومية العربية ذاك الزخم الجماهيري الذي كانت تحتاجه فكرة أسسها المسيحيون. فالبعث أسسه ميشال عفلق وحركة القوميين أسسها جورج حبش. وبما أن الفكرة في البداية مجرد مشروع يبحث عن كيان سياسي بديل لمنطقة عربية انكشفت دوليا وإقليميا بعد انهيار السلطنة العثمانية كانت بحاجة إلى قوة إقليمية كبيرة تساعدها على الانتقال من ايديولوجية مثقفين وسياسة محلية يأخذ بها أعيان المدن والعائلات التقليدية إلى حركة جماهيرية شعبية تقود الشارع في مواجهات دائمة مع المخططات الامبريالية والصهيونية.
استمر حزب البعث يتغذى من شعبية عبدالناصر إلى أن نجح في الوصول إلى السلطة في سورية. كذلك استمرت حركة القوميين العرب تأكل من الشارع الناصري لبنانيا وعربيا إلى أن وقعت هزيمة يونيو/ حزيران 1967.
قبل الهزيمة انتبه جمال عبدالناصر إلى شعبية مشروعه في المنطقة العربية فحاول قدر الإمكان توظيف تلك الجماهيرية وتأطيرها في تنظيمات سياسية مستقلة. جاءت فكرة الحزب الناصري متأخرة بعض الشيء وأخذت تتبلور إثر انهيار الوحدة السورية - المصرية في العام 1961. فبعد الانفصال تبلور البرنامج الاجتماعي (الاشتراكي) لعبدالناصر وبدأ على أساسه في تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي ومد فروعه وشبكاته إلى لبنان. إلا أن فكرة «التنظيم الطليعي» ظلت «سرية» أو محصورة في مناطق وأحياء ولم تنجح في التحول إلى ذاك الوعاء السياسي القادر على توظيف حركة شعبية كاسحة. وأدى هذا التفاوت بين تنظيم وشارع إلى نمو مجموعات ناصرية مستقلة في الأحياء والمناطق نجح بعضها في نسج علاقات خاصة مع الأجهزة الرسمية المصرية.
شعبية عبدالناصر في لبنان كانت أكبر وأوسع وأضخم من أن يستوعبها هذا الحزب أو ذاك الاتحاد أو تلك الحركة. لذلك تشرذمت الناصرية إلى مراكز قوى محلية تديرها هيئات صغيرة أو فروع تنظيمية تابعة للاتحاد الاشتراكي أو البعث أو الحركة. وحين اختلف عبدالناصر مع قيادة البعث في سورية و العراق وفشلت مفاوضات الوحدة الثلاثية (مصر، سورية، والعراق) انعزلت خلايا البعث وتقوقعت في الشارع السني واستمرت تلك الفروع في المناطق الشيعية بحكم وقوعها على الحدود وقربها الجغرافي من دمشق.
في المقابل انفردت حركة القوميين العرب في امتياز التحالف الاستراتيجي والشعبي مع عبدالناصر إلى أن وقعت هزيمة يونيو فانشطرت الحركة إلى مجموعات وفصائل لبنانية وفلسطينية (قطرية) تزاوج بين الفكر القومي وأطروحات يسارية كانت جديدة على الشارع السني أو المناطق الشيعية.
هذا التحول الايديولوجي في فكر البعث وحركة القوميين العرب وانتقال القومية من دائرة المشروع الوحدوي العفوي إلى دوائر يسارية منظمة وغير ناضجة في وعيها وسلوكها ساهم في تبعثر الناصرية إلى مجموعات أحياء وتنظيمات محلية متنافرة واتحاد اشتراكي (انشطر إلى اتحادات) وبعض الأنصار من شرائح مثقفة مسيحية ومسلمة تؤمن بالفكرة بصفتها تشكل ذاك المكون التاريخي الجامع لمصالح الأمة من محيطها إلى خليجها.
بعد رحيل عبدالناصر في 1970 وابتعاد مصر السادات عن لعب دورها الخاص في المشروع العربي دخلت الأحزاب القومية العربية في حقبة لبنانية جديدة ابتعدت كثيرا عن برنامجها السابق وفكرتها المركزية (الوحدة) وخطتها الميدانية (التحرير). فالآن وبعد أكثر من ثلاثة عقود على وفاة عبدالناصر لم تعد الفكرة في لبنان سوى ذكرى أو مناسبات تعقد من أجلها المؤتمرات الايديولوجية لتجديد عناصر القوة بها وحقنها بجرعات سياسية يائسة وبائسة.
من يراقب اليوم المشهد اللبناني في ساحتي «8 آذار» و «14 آذار» يكتشف بسرعة مدى هامشية التأثير الذي وصلت إليه الأحزاب القومية العربية. فالفكرة تفرقت إلى مجموعات صغيرة مختلفة ومنقسمة على الساحتين بينما هيئات تلك المجموعات فهي مجرد ملاحق سياسية تبحث عن دور ضائع في ميدان احتلته أحزاب الطوائف والمذاهب والمناطق.
سيكولوجية الطوائف وما تعنيه من ذبذبات أهلية كانت الأقوى في تحريك المشاعر وضبطها ضمن إيقاعات مغايرة للفكرة القومية العربية في أصولها الأولى أو فكرة القومية السورية في مبادئها الأساسية. فالانقسام في لبنان انتقل من خلاف على هوية الكيان الصغير (السورية أو العربية) إلى خلاف على من يحكم هذا البلد الجميل. فالفكرة اللبنانية انتصرت مهتزة أهليا في الشوط الأخير بعد معادلات ومتغيرات دولية وإقليمية عصفت بالمنطقة عموما وفي المشرق العربي خصوصا. فالكل الآن يتوافق على لبنانية الكيان ويختلف في الساحات على توجهات الحكم وارتباطاته الإقليمية. فالهوية المهتزة أهليا خرجت الآن من دائرة النقاش الايديولوجي وتحولت إلى أدوات محلية للصراع الدولي/ الإقليمي. وحين يصبح الخلاف على هذا المستوى تتراجع الأفكار الكبرى عن لعب دورها المركزي وتتحول الأحزاب القومية من قوة رئيسية في المتن إلى مجموعات ملحقة بالهامش.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1636 - الثلثاء 27 فبراير 2007م الموافق 09 صفر 1428هـ