استبشرت كثيرا مع الذين استبشروا بموافقة مجلس الوزراء السعودي على إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد، وقرأت جملة مما كتبه الزملاء عن آمالهم وتطلعاتهم نحو هذه الهيئة عند مباشرتها عملها.
بعد الإعلان عن هذه الهيئة، قال البعض إن هذا الإعلان جاء اعترافا بأن مجتمعنا مثل غيره من المجتمعات فيه الصالح والفاسد، ولهذا فمن الأهمية بمكان إيجاد هيئة متخصصة لمكافحة الفساد مهما كان نوعه ومهما كانت الجهة أو الأشخاص الذين يمارسونه.
وأنا أتفق مع أولئك القائلين إن مجتمعنا ليس متفردا في خصائصه عن بقية المجتمعات العربية الأخرى، فكل هذه المجتمعات فيها قدر كبير من الفساد وبكل أنواعه. هذا الفساد يمارسه غالبا أصحاب النفوذ في هذه المجتمعات لأنهم آمنون مطمئنون يعرفون أن القانون لن يطولهم لأنه يطبق على الفقراء ومَن في حكمهم.
لكن مجتمعاتنا العربية مختلفة جدا عن المجتمعات الغربية والأميركية أو حتى اليهودية، ففي تلك المجتمعات نلمس - غالبا - تطبيقا عمليا لمكافحة الفساد، هذه التطبيقات تطول كل شرائح المجتمع ابتداء من رئيس الدولة وحتى أصغر موظف فيها.
والمتتبع لما يحدث في تلك الدول يلمس حجم تطبيقات مكافحة الفساد، وكيف يؤثر هذا العمل في تحسين أوضاع المجتمع وتلاحم أفراده.
ففي أميركا - مثلا - شاهدنا محاكمة علنية لرئيس الدولة آنذاك (كلينتون) بسبب تحرشه بفتاة تعمل في مكتبه، وقبل هذه المحاكمة الشهيرة جرت محاكمات أشهر منها بسبب ما سُمي آنذاك بفضيحة ووترغيت، إذ أطاحت هذه المحاكمة بأشهر رؤوس المسئولين الأميركان... وفي «إسرائيل»، أُوقف رئيس الدولة الحالي عن عمله بسبب تحرشه الجنسي كذلك مع موظفة في مكتبه - لاحظوا قوة التشابه بين الأميركان واليهود حتى في التحرش - أما رئيس الأركان الصهيوني فقد أنهى حياته العملية بسبب إخفاقه في حرب لبنان، وقد سبق أن تعرض لتحقيق بسبب بيعه أسهما يملكها قبل الحرب مباشرة، ويقال إن هذه الأسهم لا تساوي مئة ألف ريال، انظروا الفرق بين هيئاتنا وبين قوانينهم!
في تلك البلاد يحاكم كبار القوم وقد يفضل بعضهم ترك منصبه قبل المحاكمة إذا شعر بأنه أخطأ في حق أمته، والأمثلة كثيرة يصعب حصرها وإنما أردت القول إننا - أي العرب - نتشابه في انتشار الفساد بيننا ولكن المجتمعات الأخرى تختلف عنا كثيرا، فهل هذه الهيئة ستجعلنا ننتقل من الحال التي نحن فيها إلى حال أفضل منها؟
أعتقد أن وجود هيئة لن يحقق الآمال إذا كانت غير مدعومة بقوة حقيقية، مادية ومعنوية...! أما من أين جاءني هذا الاعتقاد فهو من كثرة الهيئات - طبعا بأسماء أخرى - والتي من اختصاصها مراقبة كل حالات الفساد وإحالة مرتكبيها إلى الجهات المختصة التي يفترض أنها تحقق فيها.
عندنا ديوان المراقبة العامة، وكذلك هيئة الرقابة والتحقيق، وكل واحدة منهما لا تقل عن أية وزارة ولها أنظمة تتيح لها المراقبة والتحقيق في كل أنواع الفساد، ومع هذا فالفساد مازال موجودا وبكثرة، فلماذا؟ وأين الخلل؟
في كل وزارة جهة مالية تراقب كل المصروفات، ولها صلاحيات - وإن كانت محدودة - في مراقبة الفساد والحدّ منه، ومع هذا كله فمازال الفساد موجودا وبكثرة، فما السبب؟
المباحث الإدارية - هي الأخرى - جهة متخصصة في مكافحة الفساد الإداري ولها جهود في هذا المجال، ومع هذا كله فمازلنا نلحظ الفساد في كل مكان، فأين المشكلة يا ترى؟
مرة أخرى، هل وجود هيئة جديدة تضاف إلى كل تلك الهيئات سيحل مشكلة الفساد في بلادنا؟
يقول البعض إن ثلاثة تريليونات ضاعت نتيجة الفساد، ولست أدري هل هذا الرقم صحيح أم غير صحيح؟ لكن الذي أدريه أن الأموال التي ضاعت نتيجة الفساد لو وزعت على المواطنين لما أصبح في بلادنا أي فقير أو جاهل أو مريض.
على أية حال، دعونا نتفاءل بتحقيق تقدم حقيقي في مجال مكافحة الفساد، ولاسيما أن هذه الهيئة مطالبة - بحسب ما جاء في حديث مجلس الوزراء - بوضع خطة استراتيجية تمكنها من تحقيق أهدافها، إذا وضعت هذه الخطة لتطول بنودها كل أنواع الفساد وكل المفسدين، وإذا أعطيت هذه الهيئة قوة حقيقية لتفعيل قراراتها لتشمل كل المفسدين فإنها ستضع أقدامها على بداية الطريق الصحيح لمكافحة الفساد... أما لماذا؟ فالكل يعرف - سواء تحدث أو صمت - فإن القدوة الصالحة هي التي تحقق التقدم الفعلي والعملي، فالفساد أمر تحبه النفوس الضعيفة وهو محاط بالشهوات - مثل نار الآخرة - وصاحبه يحقق مكاسب هائلة من دون جهد يذكر، وهو لن يترك هذه المكاسب ما لم يدرك أن هناك قانونا قويا سيضعه أمام حساب حقيقي... وعندما يرى سواء الناس تحقيق القانون على أكابر القوم فإن سائر الناس سيرتدعون عن غيّهم وسيسلكون الطريق الصحيح... وعلى الهيئة ملاحظة هذه الحال إن أرادت أن تبدأ بصورة سليمة.
الأمر الآخر والمطلوب من الجهات كافة «حماية النزاهة»، وهذه الحماية يجب أن تتبناها الجهات التعليمية كلها والجهات الإعلامية كلها وخطباء المساجد ومن في حكمهم... فهذه الجهات يجب أن تغرس القيم الإسلامية في نفوس الجميع، تلك القيم التي ترفض الفساد بأنواعه كافة، وتطالب جميع المسلمين بالابتعاد عن الفساد ومحاربته.
هيئة مكافحة الفساد في السعودية تقف أمام امتحان صعب، فإما أن تنجح فيه فتحقق الإصلاح الذي عجزت كل الهيئات الحالية عن تحقيقه، وإما أن تفشل ويومها سيعتقد المواطنون أن الفشل حليف كل محاولة للإصلاح.
إخواننا في البحرين - الدولة وجميع مؤسساتها - مدعوون أيضا إلى مكافحة الفساد في بلادهم بكل أنواعه وبصورة جادة وحقيقية بعيدا عن الشعارات التي لا تتحقق.
لا أظن أن أحدا في البحرين ينكر وجود الفساد في مؤسسات الدولة، وكذلك سوء أوضاع شريحة من المواطنين... كل ذلك يجب أن يدفعهم إلى تبني فكرة مكافحة الفساد بكل الوسائل لكي ينعم الجميع بالأمن والاستقرار، الحاكم والمحكوم على حدٍّ سواء.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1635 - الإثنين 26 فبراير 2007م الموافق 08 صفر 1428هـ