العدد 1635 - الإثنين 26 فبراير 2007م الموافق 08 صفر 1428هـ

النوارس تعرف وجهتها

فوزية مطر comments [at] alwasatnews.com

انقضت الفسحة ودخلت الطالبات فصولهن، هدأ المكان وخلت ساحات المدرسة إلا من حركة بسيطة. وحين بلغت عقارب الساعة الدقيقة الخامسة والثلاثين بعد العاشرة صباحا، بدأت تحط تباعا مجموعات من النوارس الكبيرة والصغيرة في الساحة الخلفية الكبرى لمدرسة الاستقلال الثانوية.

وما إن اكتمل عدد النوارس حتى شرعت في التقاط بقايا الطعام التي خلّفتها الطالبات على أرض الساحة.

في كل يوم دراسي تغادر النوارس مياه البحر القريب في وقت محدد متجهة نحو ساحة المدرسة لتحط في وقت محدد، وبعد أن تنال رزقها تبرح المكان أيضا في وقت محدد. كل ذلك بالتزام ودقة لا يضاهيهما التزام ودقة الإنسان.

كان ذلك في السنوات الأخيرة من الثمانينات الماضية حينما كنتُ أعملُ في التدريس في تلك المدرسة. وشهدتُ المشهد يتكرر يوميا عندما كانت الساحة الخلفية للمدرسة فارغة ومفتوحة ومتاحة. وكنت أسعدُ كثيرا حينما لا أكون ملتزمة بالحصة الرابعة التي تتبع الفسحة مباشرة، فأقفُ في زاوية بعيدة أرقبُ هذا المشهد اللافت مشدوهة بإتقان هذه الطيور في تحديد هدفها وتقدير وجهتها ونظامها والتزامها الوقت. اليوم - كما أسمع - ضاقت المباني الأساسية للمدرسة بطالباتها وامتلأت الساحة الخلفية بالصفوف المصنّعة، وأظن أن النوارس قد عافت المكان وحوّلت وجهتها نحو ساحات أخرى.

في عراد أعرف أيضا ساحتين واسعتين تزورهما النوارس كلَّ صباح. والنوارس تعرف هدفها ووجهتها تماما، فالساحة الأولى تقع مقابل خباز وبقالة فواكه ومخبز، كما أنها مكان يتخذه صبية المنطقة ملعبا لكرة القدم كل مساء. المحلات تترك شيئا من فضلاتها في الساحة، والصبية يرمون على أرضها فضلات ما يأكلون والنوارس تأتي لتقتات من فضلات الأطعمة المتوافرة على أرضها. إبان الحملات الانتخابية الأخيرة نُصِبَت على هذه الساحة خيم المترشحين، وقد لاحظتُ انقطاع النوارس عنها وامتناعها عن زيارتها طوال فترة الحملات الانتخابية. ربما تكون النوارس قد تحولت حينها إلى وجهة أخرى، ولكنها اليوم - وقد انفض سامر الانتخابات- عادت تزور الساحةَ كل صباح.

الساحة الأخرى تقع ملاصقة لحديقة عراد الجديدة في منطقة جميلة مفتوحة وهادئة لبعدها عن زحام وإزعاج السيارات وفي أجواء مفعمة بنقاوة الهواء وطراوته.

ليس أروع من أن يتمشى المرء حول الساحة والحديقة الملاصقة لها ويمد البصر للبعيد فيرى البيوتَ تحيط بالمنطقة من حوله والسماءَ تمتد في الأعالي زرقاء أو غائمة. السكون يعم المكان فيُسمع أحيانا حتى صرير الحذاء ووَقْع الخطوات. وأحيانا يكسر سحر السكون مرور سيارة أو وصول طائرة عن بعد، وأحيانا أخرى صوت آلة قص حشائش الحديقة التي على رغم إزعاجها فهي تنشر عبق الخضر الطرية الزكية في الأجواء فتعطر الأنوف وتنعش القلوب.

أتمشى كل صباح حول الساحة والحديقة وألحظُ برنامجا يوميا متقنا لزيارة النوارس لها في فترة محددة وبطقوس معينة. تصل مجموعة النوارس مع صغارها وتحط بوسط الساحة المترامية باتساع ملعبي كرة قدم أو أكثر. تقف النوارس كلٌ في المكان والاتجاه اللذين حط فيهما وتبقى من دون حركة أو التفاتة في صمت مطبق مهيب يثير الدهشة كمن يقف وقفة عسكرية ثابتة في طابور تحية العلم. هذا على رغم وجود بعض طيور الحمام الذي يتحرك حول النوارس ملتقطا ما يتهيأ له من طعام. بعد برهة تخرج من أحد البيوت خادمة تحمل كيسا صغيرا يحتوي على بقايا طعام - في الغالب بقايا وجبة أرز - وتلقي به في الساحة. يتراكض الحمام نحو الكيس وهنا ترفع النوارس رؤوسها وتتجه هي الأخرى نحو الطعام. تنهي النوارس التقاط طعامها تباعا ومن ينتهي منها يطير نحو سياج الحديقة. تصطف النوارس على السياج في نظام متوازٍ بديع، وحالما يصعد آخر نورس تطير جمعيها في وقت واحد وباتجاه واحد نحو البعيد حتى تختفي عن مجال النظر. يتكرر المشهد أمامي يوميا كلما تمشيت في الصباح حول الساحة.

النوارس تهوى الأماكنَ المفتوحةَ الهادئةَ وهي طيور وديعة مسالمة، ولكنها تملك رؤية حصيفة لما تريد وأين ومتى، وجهتها واضحة لا غبار عليها ولا لبس فيها. ما أحوجنا إلى أن نكون نوارسَ بشرية نعرف هدفنا ونحدد وجهتنا ومتى وكيف نصل إليها. أخشى كثيرا أن تطول يد البناء والتغيير هذه الساحة الكبيرة فتغلق المنطقة وتجبر النوارس على الرحيل. وأتمنى كثيرا لو دُمِجت الساحة مع حديقة عراد التي لا يمكن أن يُطلق عليها سوى حُدَيْقَة نظرا إلى صغر مساحتها. فهذه الحُدَيْقَة لا تغطي احتياج عراد بكاملها التي تحولت إلى مدينة صغيرة تمتد من القلعة شرقا لتصل إلى الحد غربا وتتداخل معها، ومن البحر جنوبا إلى شارع المطار شمالا. ومما يحدُّ من مساحة الحُدَيْقَة تخصيص جزء منها ملعبا لكرة السلة وجزء رملي آخر ملعبا لكرة اليد. ألم يكن بإمكان البلدية أو المجلس البلدي ترتيب ضم هذه الساحة المحاطة بثلاثة شوارع داخلية هادئة إلى الحديقة الصغيرة كي تصبح «حديقة عراد» اسما على مسمى؟ أتوقع الإجابة التي بتنا نسمعها عن كل مكان: الساحة الكبيرة ملك خاص. بين كميات الحصى والاسمنت التي تحاصرنا من كل جهة، كم نحن بحاجة إلى المساحات المفتوحة متنفسا للإنسان المتعب ووجهة للطير الجائع.

إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"

العدد 1635 - الإثنين 26 فبراير 2007م الموافق 08 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً