يلاحظ من خلال مراقبة المشهد اللبناني، الذي استقر على انقسام سياسي يطلق عليه مفردات عامة مثل «8 آذار» و«14 آذار»، غياب الأحزاب القومية العربية عن صنع الحوادث الظاهرة أو المحركة للشارع. عدم الحضور لا يعني الغياب المطلق. فالأحزاب القومية العربية موجودة في إطار هيئات أو نقابات أو منظمات أو اتحادات موزعة على مجموعات سياسية تتجاذبها الأحياء واعيان المدن.
فكرة القومية العربية كانت ولاتزال موجودة بقوة في لبنان، ولكنها في الآن كانت دائما ضحية سيكولوجية الطوائف وتنازعها للسلطة السياسية ومتفرعاتها الوظيفية وامتداداتها الإقليمية. الطوائف اللبنانية المسيحية والمسلمة هي في الغالب عربية التكوين القبلي والثقافي واللغوي. وهذه المسألة لا خلاف عليها. الخلاف يبدأ من مسألة تسييس العروبة ونقلها من إطارها التاريخي - الحضاري إلى دائرة حزبية ضيقة. وبسبب الخلاف الطوائفي على تحديد هوية نهائية للكيان اللبناني والاختلاف على الأولوية نشأ ذاك النزاع المذهبي/ الحزبي على تعريف القومية وتحديد شروطها وعواملها التأسيسية. وهنا لعبت سيكولوجية الطوائف وما تعنيه من تجاذبات أهلية دورها في تعطيل الفرص أمام نهوض فكرة قومية توحد المصالح والمشاعر. وأدى التذبذب الأهلي في التعامل مع المسألة القومية دوره في تمزيق الكيان إلى أهواء سياسية وفضاءات دولية وإقليمية تحركها من داخل الكيان توجهات «الملل والنحل» وتنافرها على جزئيات.
العروبة كفكرة قومية لم تكن مطروحة بقوة على الساحة في العشرينات والثلاثينات. ففي تلك الفترة كان النزاع على أشده بين «اللبنانية» و»السورية». والفكرة السورية كانت تعني في وجه من الوجوه مسألة عربية في اعتبارها تطالب باتحاد سياسي يتجاوز التقسيمات البريطانية - الفرنسية (سايكس - بيكو) لمنطقة المشرق العربي. بهذا المعنى كانت العروبة فكرة سورية وبالتالي لم تكن مطروحة في سياق حزبي مستقل إلا في حدود تلك التنظيمات السياسية التي تأسست في المشرق في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
الأحزاب العربية آنذاك لم تكن واضحة في تعريف فكرتها القومية. فهناك من كان يرى في العروبة هوية سياسية ترد على محاولات «التتريك» التي قادتها الاتجاهات القومية التركية في نهايات مرحلة السلطنة العثمانية. وهناك من كان يرى في العروبة دعوة سياسية للاستقلال عن السلطنة في طبعتها التركية. وهناك من كان يجد في العروبة فكرة تحصن اللغة العربية وتدافع عن ثقافتها وأمجادها الغابرة. وهناك من كان يرى في العروبة هوية عامة، ولكنه أيضا تعامل معها بحذر حتى لا تشكل غطاء للتقسيم.
كل هذه الاتجاهات السياسية كانت موجودة في فكرة واحدة تتنازعها آراء مختلفة الأهواء والاتجاهات. وفي حال مراجعة الكتابات القومية في تلك الفترة تنكشف الكثير من التعريفات للفكرة العربية. فهناك من اختصرها إلى لغة، وهناك من ربطها بالتاريخ، وهناك من رأى فيها ذاك الجانب الديني الإسلامي، وهناك من وضعها في موقع مضاد للإسلام.
عدم الوضوح في تعريف الهوية القومية للعروبة ساهم في إرباك التيار العربي في لبنان في مطلع القرن الماضي وأدى إلى نشوء وجهات نظر غير متوافقة على برنامج سياسي متماسك. لذلك نشأت مجموعة هيئات عروبية في لبنان تراوح تأثيرها بين التنظير الايديولوجي للفكرة وتشكيل أندية وجمعيات تصدر البيانات وتعقد اللقاءات للدفاع عن القضايا العربية. هذا في البداية. ولكن الفكرة عادت واندمجت في ذبذبات الطوائف اللبنانية وأعيد تشكيلها في إطار إسلامي عام (حزب النجادة) وكقوة سياسية مضادة للفكرة اللبنانية «الانعزالية» التي كان يقودها حزب الكتائب.
لم ينجح «حزب النجادة» القومي العربي في تشكيل قوة جاذبة للمسيحيين اللبنانيين لأن الشريحة العليا من تلك الطوائف تعاملت مع «النجادة» كحزب لبناني (سني) يحمل فكرة قومية تخاطب الطوائف المسلمة. فالحزب فعلا كان أقرب إلى التركيبة اللبنانية الطوائفية وأبعد من أن يمثل ذاك الحزب القومي الممتد إقليميا وعربيا. وبهذا المعنى يمكن اعتبار «النجادة» أول محاولة لدفع الفكرة العربية نحو اللبننة وتحويلها من نظرية قومية عامة إلى مشروع تسوية بين الطوائف اللبنانية.
استمر هذا الوضع إلى نهايات الأربعينات. فالنجادة ورث القومية العربية عن ذاك الرعيل الذي اجتهد في مطلع القرن وأسس تلك الأحزاب (النداء القومي مثلا) التي فشلت في تحويل الفكرة إلى تيار سياسي فاعل في الساحة اللبنانية. فالفكرة القومية بداية تشكلت في وسط النخبة المسيحية الشامية. ولعب اللبنانيون في تلك الفترة الدور الريادي في التنظير للفكرة القومية العربية (أو السورية). إلا أن الموضوع سرعان ما تحور ايديولوجيا وبدأت تتجاذب الفكرة نزعات أهلية لعب خلالها الدين الدور الفاصل في الاختيار بين قوميتين: واحدة علمانية والأخرى إسلامية.
شكل هذا الالتباس بين الديني والقومي نقطة ضعف للفكرة العربية حين انتقلت من كونها جبهة سياسية تدافع عن العرب ضد الأتراك إلى مشروع تقسيم يفصل بين العرب ويوزع المشرق العربي إلى دول مستقلة. في المرحلة الأولى وحدت الفكرة العربية بين اللبنانيين المسيحيين والمسلمين. وفي المرحلة الثانية أخذت الفكرة تقسم اللبنانيين بين مسيحيين ومسلمين. والسبب هو الطوائف وسيكولوجيتها السياسية. وهكذا انتقلت القومية العربية من كونها أحد المنتوجات المسيحية إلى فكرة إسلامية تريد زعزعة الكيان اللبناني وإعادة دمجه في محيط عربي يشكل الإسلام غالبية عظمى من سكانه.
استمر هذا التنافر إلى نهايات الأربعينات. ومنذ تلك الفترة أخذت القومية العربية ذاك الطابع الحزبي الذي تأسس وفق صيغ ورؤى وهيئات غير لبنانية. فحزب البعث العربي اخذ يشق طريقة إلى لبنان من الخارج (المحيط السوري) ليجذب إلى صفوفه تلك النخب المثقفة التي تقرأ السياسة في إطار عام يمتد إقليميا ويتجاوز حدود هذا البلد الصغير وطوائفه. وحركة القوميين العرب التي تأسست في لبنان وجذبت إلى صفوفها القوى الفلسطينية النازحة من ديارها تشكلت وفق تصورات ثأرية للنكبة التي عصفت بالمنطقة.
تحزيب الفكرة العربية وتسييسها وتأطيرها في حلقات تنظيمية ضيقة اضعف المشروع وجعله مجرد ايديولوجية تستهوي شريحة المثقفين وتلك الفئة المتعلمة أو المتخرجة من الجامعات.
آنذاك لعبت الجامعة الأميركية في بيروت الدور الرائد في توليد الفكرة وتعليبها في تعريفات سياسية نهائية. ومن تلك الجامعة تخرجت الكثير من الأفواج العربية التي تحزبت للفكرة القومية وأسست لها تلك الفروع في الخارج. إلا أن الحركة لم تتحول إلى تيار جماهيري لبناني نظرا إلى عدم اهتمام قادتها في الشأن المحلي ولكون معظم المؤسسين من المسيحيين الفلسطينيين. فالهاجس الأول كان الثأر من الصهيونية وتحرير الأراضي المحتلة (نكبة 1948) ولذلك شكل الموضوع الفلسطيني نقطة التوحيد للمشروع العربي. وبسبب هذا التكوين الثقافي/ السياسي تحولت حركة القوميين العرب إلى منظمة جماهيرية فلسطينية تتخذ من لبنان ساحة لنشر الفكرة وتأسيس الفروع في المنطقة أكثر من كونها حركة شعبية لبنانية كما كان حال حزب «النجادة» المحلي النشأة والتفكير.
إلى جانب القوميين العرب لعب حزب البعث دور المحرك للفكرة من المقلب الآخر. فهذا الحزب ليس لبنانيا في معنى التأسيس والتنظيم كما هو حال انطون سعادة (السوري القومي) وبيار الجميل (الكتائبي) أومحيي الدين النصولي (النجادة). البعث تأسس في سورية واخذ يعمل على كسب الأنصار وتشكيل فروع أو هيئات تابعة له في القطر اللبناني.
حتى الخمسينات كانت حركة القوميين العرب في لبنان مجرد هيئة فلسطينية تتحرك في المخيمات لتحرير الأراضي المحتلة بدعم من اللبنانيين (المسلمين) كذلك كان البعث مجرد فكرة قومية تريد بناء دولة عربية وفق تصورات تتجاوز الدين وترى في الإسلام مجرد رافد ثقافي من روافد الحضارة العربية.
ساهم هذا التكوين الايديولوجي للحركة والحزب في تعطيل إمكانات تحول الفكرة القومية إلى تيار جماهيري عام يكتسح الشارع المسلم. لذلك اقتصر نشاط القوتين القوميتين على كسب المتعلمين وشرائح المثقفين من المسيحيين والمسلمين اللبنانيين والعرب. واستمر هذا الحال إلى أن وقع انقلاب (ثورة) يوليو العسكري في مصر في العام 1952.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1635 - الإثنين 26 فبراير 2007م الموافق 08 صفر 1428هـ