ومع التسليم بهذه النتيجة، فإنه مازال بإمكاننا الاستفادة من تفحص الشعر الهلالي القديم الذي أورده ابن خلدون في تلمس بدايات الشعر النبطي، والأجواء اللغوية والاجتماعية التي نشأ فيها؛ وذلك لقربهما من بعضهما في بداية نشأتهما؛ ولكونهما انحدرا من أصل واحد. ولا أدل على ذلك من أن ابن خلدون يدمج قصيدة برمتها تنتمي إلى إرث شعري واحد.
ويسوق ابن خلدون ملاحظات شكلية تنطبق على الشعر الهلالي بالمصداقية نفسها التي تنطبق بها على الشعر النبطي. والقصائد التي جاءت في المقدمة تؤكد دقة ملاحظات ابن خلدون، وعلى مدى التشابه بين الأشعار الهلالية والأشعار النبطية القديمة، مع فوارق في اللهجة لا تخفى على عين البصير باللغة. ومن أوجه الشبه البارزة بين شعر بني هلال في المغرب والنماذج القديمة من الشعر النبطي: أن ذكر الديار مربوط بذكر الخيل والنعم والحسناوات اللاتي كان الشاعر يسامرهن ويتلهى بمداعبتهن، كما في قصيدة علي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر، وقصيدة سلطان بن مظفر ابن يحيى من الذواودة. وهذا موضوع تقليدي يكثر الشعراء النبطيون من طرقه، ونجد الكثير من الأمثلة عليه.
ولكن ماذا عن الأشعار التي تدخل في فلك السيرة، وما علاقتها بالمقطعات التي كانت متداولة تداولا شفهيا بين أبناء الجزيرة العربية حتى عهد قريب، وينسبوها إلى بني هلال؟ ما علاقة هذه المقطعات الشفهية بما أورده ابن خلدون؟، وهل يمكن الاعتماد عليها كنماذج تمثل بدايات الشعر النبطي؟، ومرحلة الانتقال من النسق الفصيح إلى النسق العامي في لغة شعر البادية في الجزيرة العربية؟ ما أورده ابن خلدون من أشعار السيرة الهلالية يشكل النواة التي نشأت منها هذه الملحمة العربية التي أصبحت رواياتها فيما بعد تتداخل على امتداد الوطن العربي كله، بما في ذلك الجزيرة العربية، قصة الجازية مع الشريف شكر التي ذكرها ابن خلدون في الجزء السادس من تاريخه لاتزال قيد التداول الشفهي عندنا في نجد. الزناتي خليفة وذياب بن غانم وحسن بن سرحان لاتزال أسماؤهم تتردد على ألسنة الرواة في مختلف أنحاء الجزيرة العربية. ومع ذلك تبقى القصائد الهلالية المتداولة في نجد شيئا مختلفا عما سجله ابن خلدون، مثلما تختلف روايات السيرة الهلالية من بلد عربي إلى بلد عربي آخر. والمقطعات الهلالية المتداولة في نجد، شأنها شأن ما شاكلها من أشعار الضياغم وما يدور في فلكها من صنف أشعار شايع الأمسح وغيره، لا يصح الاعتماد عليها في تأريخ بدايات الشعر النبطي وتتبع مراحل نموه وتطوره، وذلك نظرا لطبيعتها الشفهية والأسطورية. الأشعار التي وصلتنا عن طريق الرواية الشفهية فقط لا يمكن الاعتماد عليها كأساس قوي لتأريخ الشعر النبطي، خصوصا إذا كانت هذه الأشعار مما تبدو عليه المسحة الأسطورية أو الروائية. وكلما كان الشاعر موغلا في القدم وكلما أحكم في القدم وكلما أحكم النسج الأسطوري حول شخصيته إزداد شكنا في صحة نسبة أشعاره وفي قيمتها كمصدر للبحث في نشأة الشعر النبطي ومراحل تطوره اللغوية والفنية. وحتى لو سلمنا بصحة نسبة قصيدة من القصائد القديمة إلى قائلها المزعوم، فإن عدم ثباتها لفظيا عن طريق الرواية الشفهية يجعلنا في شكل وحذر من الاعتماد عليها كنموذج يمثل الواقع اللغوي والأدبي للعصر الذي يفترض أنها قيلت فيه. وما يقوي شكنا في نسبة بعض الأشعار النبطية إلى القدماء أننا نجد أبياتا تروى باللهجة العامية وتنسب إلى شخصيات من العصر الجاهلي مثل: كليب والمهلهل وجساس وعنترة! وقد جمعت بنفسي الكثير من هذه الأشعار من الراوية سعود بن جلعود من أهالي سميرا قرب حايل.
العدد 1634 - الأحد 25 فبراير 2007م الموافق 07 صفر 1428هـ