تشكلت فكرة الأحزاب المناطقية الثلاثة في لحظات زمنية سياسية وطنية عامة، فهي ليست طائفية ولا تريد أن تكون كذلك. وهي ليست محلية وطمحت أن تكون لبنانية شاملة. ولكن قوانين الواقع أقوى. والأقوى يفرض شروطه.
حزب «الكتلة الوطنية» بدأ في عهد الرئيس اميل أده من أقوى الأطراف المحركة للحياة السياسية العامة في لبنان ما قبل الاستقلال. وتقاسم مواقع النفوذ لاحقا مع الكتلة الدستورية. ولكن التحولات الدولية التي طرأت على المنطقة أضعفت الموقع الفرنسي في المشرق العربي (بلاد الشام) لمصلحة صعود النفوذ البريطاني. وبسبب الصراع الفرنسي - البريطاني على وراثة لبنان بعد الاستقلال نجحت لندن في تسجيل نقطة لحسابها حين دعمت التحالف الثنائي بين بشاره الخوري (رئيس الجمهورية من 1943 إلى 1952) ورياض الصلح (رئيس وزراء لبنان) ضد اميل أده حليف فرنسا الثابت.
نجاح الثنائي الخوري - الصلح أضعف شوكة أده التي تراجع تأثيرها بسبب ظهور قوة بريطانيا على فرنسا في فترة الخمسينات في منطقة المشرق العربي. إلا أن اغتيال الصلح وقيام ثورة يوليو (تموز) الناصرية في مصر أضعف الكتلة الدستورية لمصلحة تيار عروبي - لبناني شاب قاده كمال جنبلاط وكميل شمعون وانتهى بانتخاب شمعون رئيسا للجمهورية. ولكن المتغيرات الدولية والإقليمية عادت وعصفت بالمنطقة ولبنان خلال أزمة السويس والعدوان الثلاثي على مصر. وأدى ظهور الثنائي الأميركي - السوفياتي على مسرح «الشرق الأوسط» على حساب تراجع الثنائي البريطاني - الفرنسي إلى قلب طاولة التحالفات اللبنانية. فجنبلاط (الأب) وقف إلى جانب مصر عبدالناصر وأيد الوحدة المصرية - السورية في العام 1958 وشمعون وقف مع الثنائي البريطاني - الفرنسي وملحقاته ومشروعاته في المنطقة (حلف بغداد مثلا) فانهار لبنان وانقسم أهليا وانفجرت في داخله تلك المعارك الطائفية وانتهى الوضع بتسوية «لا غالب ولا مغلوب». ولكن الواقع الميداني حمل رياح التغيير الدولية إلى لبنان وأعيد تشكيل التحالفات في ضوء ثنائيات أهلية ليست بعيدة عن التأثيرات الإقليمية. فبعد انتهاء عهد شمعون ستبدأ الولايات المتحدة تلعب دورها الخاص في اختيار رؤساء لبنان بالتفاهم مع مصر عبدالناصر. والرئيس فؤاد شهاب (جنرال وقائد الجيش اللبناني) كان نتاج تسوية أميركية - مصرية نجح في فرض حضوره على الساحة اللبنانية إلى فترة تجاوزت عهده. فالرئيس شارل حلو يعتبر إلى حد كبير امتدادا للشهابية مع تعديلات بسيطة فرضتها متغيرات طرأت على معادلة المنطقة الإقليمية وهزيمة مصر في حرب يونيو/ حزيران 1967.
تعتبر السنوات الثلاث الفاصلة بين هزيمة يونيو ورحيل عبدالناصر في سبتمبر/ أيلول 1970 فترة انتقالية نقلت لبنان من حال إلى أخرى. آنذاك بدأت القوى المسيحية (المارونية) التي تضررت من تحالف شهاب - جنبلاط مع مصر الناصرية تستعيد قواها مستفيدة من تراجع نفوذ القاهرة فشكلت جبهة سياسية أطلق عليها «الحلف» وضمت ريمون أده وكميل شمعون وبيار الجميل. وقاد «الحلف» الثلاثي معركة قاسية ضد الشهابية وأجهزتها الأمنية وانتهت المعادلة بانتخاب سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية وصائب سلام رئيسا للوزراء.
أسهم الثنائي فرنجية - سلام في تشكيل توازن محدود بين قوة «الحلف» الماروني وتكتل «النهج» الشهابي - الجنبلاطي. ولكن التوازن عاد وانكسر مجددا بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. إذ شهدت المنطقة متغيرات دولية وإقليمية جديدة. دوليا ظهر دور الاتحاد السوفياتي كقوة مساندة للعرب (سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية تحديدا) على مسرح الصراع العربي - الإسرائيلي وساحته لبنان. وإقليميا تراجع دور القاهرة في المنطقة لتقوم دمشق بلعب ذاك الدور الخاص في تعديل التوازنات اللبنانية.
شكل عهد فرنجية الجد جسر عبور للنفوذ الفلسطيني/ السوري في إطار ثنائيات دولية وإقليمية جديدة وانقسامات أهلية طائفية. المتغيرات الطارئة أحدثت انقلابات في التحالفات المحلية فوقف أده مع التحالف اليساري - الفلسطيني ضد دمشق بينما وقف فرنجية مع «الجبهة اللبنانية» ثم انفصل عنها بعد اختلافها مع سورية. واستمر التجاذب الأهلي/ الإقليمي إلى أن اجتاحت «إسرائيل» لبنان في العام 1982 ليدخل بعدها هذا البلد الصغير في طور آخر من الأزمات.
كل هذه المتغيرات المحلية (الأهلية) كانت نتاج اختلاف المناخات الدولية وحصول تحولات كبرى انعكست سلبا وإيجابا على مواقع القوى الإقليمية ودورها الخاص في صنع السياسة اللبنانية. ففي العشرينات والثلاثينات إلى مطلع الأربعينات كانت فرنسا هي اللاعب الأول وتقلص دورها في المشرق العربي مع نهاية عهد الرئيس اميل أده. وفي الأربعينات إلى نهاية الخمسينات لعبت بريطانيا دور اللاعب الأول وتقلص دورها بعد أزمة السويس لتخرج من المعادلة اللبنانية مع نهاية عهد الرئيس كميل شمعون. وفي الستينات ومطلع السبعينات تقاسمت الولايات المتحدة مع مصر دور اللاعب الرئيسي في صنع السياسة اللبنانية ليظهر على الساحة دور سورية الإقليمي بعد انسحاب القاهرة من المعادلة بسبب توقيع الرئيس أنور السادات اتفاقات كامب ديفيد والصلح مع «إسرائيل».
منذ العام 1976 أخذت دمشق تلعب دور اللاعب الأول بالتفاهم مع الولايات المتحدة إلى أن حصلت تحولات دولية كبرى قادتها واشنطن في سياسات كسرت قواعد اللعبة الإقليمية بعد احتلال بغداد في العام 2003.
الآن وبعد كل تلك المتغيرات نجد أده مع «14 آذار» بعد أن تحول حزبه من لاعب رئيسي في الساحة إلى قوة تتعرض للمنافسة في قضاء جبيل. ونجد شمعون مع «14 آذار» بعد أن تحول حزبه من قوة تتحكم بالانتخابات النيابية والتكتلات البرلمانية إلى قوة هامشية تنافسها مواقع حزبية مسيحية في الشوف. أما فرنجية فهو الآن مع «8 آذار» وحليف سورية الأول في المناطق المسيحية (المارونية) بعد أن كان أحد مكونات «الحلف الثلاثي» ثم «الجبهة اللبنانية» ثم المساند للشارع المسلم.
المشهد اللبناني بحاجة فعلا إلى حفر في المعلومات لفهم تلك الصور المشوشة التي تظهر على محطات التلفزة والفضائيات. وهذا المشهد تتحكم فيه آليات الواقع الأهلي وتدفعه صعودا وهبوطا ويمينا ويسارا سيكولوجية الطوائف التي تقوم على ثنائيات محلية تعصف بها متغيرات دولية وإقليمية. فالتحولات الخارجية العامة تنعكس قوة أو ضعفا على معادلات الطوائف وتوازناتها فتؤدي بفعل الزمن إلى نقل القوي من المتن إلى الهامش ودفع الضعيف من الطرف إلى المركز.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1634 - الأحد 25 فبراير 2007م الموافق 07 صفر 1428هـ