هناك كما نعلم وتعلمون بطالة مهما حاولت الجهات الرسمية من خلال التصريحات والبيانات الصحافية أو من خلال اللقاءات الإعلامية أن تقلل من أعدادهم وأن تختزل العدد وتضع ما تضعه من الأعذار رغم كون بعضها إذا لم تكن أغلبها صحيحة بنسبة وتناسب، وكما نعلم وتعلمون بأن هناك بطالة جامعية تزداد يوما بعد يوم نتيجة لأسباب عديدة ربما على رأسها سوء التخطيط والتنسيق، ونتيجة لوجود التمييز الوظيفي «قاتله الله» مهما حاولنا إخفاء ملامحه من خلال المكياج القائم على التصريحات المنافية والمدافعة فالحقائق اليوم صارخة وتنطق بنفسها، وكما نعلم وتعلمون بأن هناك نموا سريعا وكبيرا في قطاع التجزئة نشهد آثارها ومظاهره في المجمعات التجارية التي تزداد في أعدادها وفي ضخامتها وفي المحلات والماركات التجارية المعروفة التي تحتويها.
وهناك كما نعلم وتعلمون أيضا بأن هناك تخمة حتى الغثيان في القطاع العام، وكما نعلم وتعلمون بأنه لا يزال هناك حماس مرتفع ورغبات كثيرة غير عادية وغير موجهة ولكن لا يمكن ضبط إيقاعها من قبل العاطلين عن العمل تتجه إلى القطاع العام إلى وزارات الدولة، فهناك ثقافة مرسومة وراسخة لدى قطاع كبير من العاطلين عن العمل ولدى قطاع كبير أيضا من العاملين في القطاع العام، حيث الدوام القصير والعمل الخفيف والمسئوليات المحدودة والإنتاج البسيط، والإجازات المرسومة الكثيرة، فهناك يومان إجازة مقابل خمسة أيام عمل وهناك نهم غير عادي للانضواء تحت مظلة ديوان الخدمة المدنية الذي بدوره يحمل مشاعر معكوسة للخريجين الجامعيين فهو لا يجد لهم مكانا يسكنهم فيه، ولكنه إن أراد أن يوظف أحدا فيكون ذلك بمنتهى الهدوء بلا إعلان وبلا مقابلات ولا هم يحزنون، معتمدا بدرجة أساسية على المحاباة وعلى سياسة بغيضة لطالما رغبنا في انتهاء فصولها والقضاء عليها، ولكن لا تزال للأسف الشديد هناك شللية غير طبيعية، وبؤر فساد تعمل ليل نهار، تعمل لأهداف تمييزية طائفية بغيضة، والوطن يئنّ منها ومن خطواتها دون فائدة.
القارئ الكريم اعذرني إن قلت إليك إن تلك الفقرات السابقة كانت بمثابة مقدمة أو مستهل أستهل به مقالي لهذا اليوم، وما أريد أن أتحدث إليكم عنه اليوم أحد الحوارات التي استمعت إليها بصورة مباشرة مع أحد الأشخاص متواصلا بصورة مباشرة مع مجموعة من الجامعيين العاطلين عن العمل، لكونه يحاول عرض وظيفة محددة عليهم لا تتفق مع تخصصاتهم الجامعية ولكنها تحمل إليهم الأمل الصادق، وتنقلهم من وضعهم الحالي عاطل عن العمل إلى موظف له احترامه وله استقلاليته المالية بل إن الوظيفة التي يتكلم عنها ربما راتبها أفضل بكثير مما ينتظره الجامعي العاطل عن العمل فيما لو فتحت له السماء أبواب الخير، وعندما يستجاب دعاء والدته فهو ينتظر فرصة وظيفية تبدأ بـ 350 دينارا توفر له أسباب الحياة الكريمة، علما بأن المتصل كان يهدف إلى تحديد مواعيد لمقابلاتهم الوظيفية.
طبعا إيقاع الحوار تم بصورة تقريبا متشابهة إن لم تكن متكررة، فهم في الغالب يسألون عن: نوع الوظيفة، المسمى الوظيفي، الدوام، الراتب، المكان.
إلى الآن لا غرابة في الموضوع ولكن أغلبهم ما أن يعرفوا بأن الوظيفة المعروضة عليهم من خلال الهاتف الجوال تنتمي إلى قطاع التجزئة وليس القطاع العام يشعر بالإحباط والضجر، ويشعر بالفرحة والارتياح حينما يعرف بأن الراتب مغرٍ جدا وهناك فرص كبيرة للترقي والسقف مفتوح بالنسبة إلى الراتب، الأمر الآخر ما أن يعرفوا من خلال المتصل أيضا بأن الوظيفة هي «بائع» فالعاطل لا يتردد في تبيان امتعاضه وانزعاجه، لكونه يرى نفسه بأنه جامعي ويحمل شهادة بكالوريس في تخصص إما علم النفس التربوي وإما خدمة اجتماعية، فلا تخصصه سيشفع له في وظيفته الجديدة ولا هو محب لشغل منصب بائع يبيع للزبائن ما يعرضه المحل من بضائع رغم أن المحل راقٍ جدا وله سمعة جدا حسنة ولا يبيع أي شيء فهو يبيع مجوهرات وإكسسوارات ماركات عالمية، وفي مجمع تجاري راقٍ جدا.
ثمة إنزعاج آخر لم ينجح الجامعيون العاطلون عن العمل إخفاءه وهو مسألة الدوام الوظيفي، فهم على كل حال يميلون إلى دوام القطاع العام من الساعة السابعة حتى الواحدة ظهرا لا دوام القطاع الخاص الذي يمتد إلى ما بعد الظهر, أحيانا في الفترات المسائية.
ثقافة العمل في القطاع العام تبدو منغمس فيها العديد من العاطلين، بل إن البعض ممكن يعمل حاليا في القطاع الخاص يتحين الفرص لينتقل بدوره إلى القطاع العام والسبب الرئيسي هو أن العامل في القطاع الخاص أيضا ليس له من الحقوق كما العامل في القطاع العام، ولعل البونس اليتميم واحد من الشماعات التي يعلق العامل في القطاع الخاص همومه عليها، إلى جانب الإجازات الرسمية التي في الغالب تحت رحمة أصحاب الحلال فضلا عن التأمين الاجتماعي.
من هذا كله نجد بأن العاطلين عن العمل قد نجد بأنهم محقون أحيانا من التوجسات التي تسكنهم، والحكومة بيدها العصا السحرية وتستطيع أن تبدد العديد من الهواجس من خلال توحيد الامتيازات بين القطاع العام والخاص، حتى تتمكن من فتح شهية العاطلون للتوجه إلى اغتنام فرص القطاع الخاص، بدلا من وقفهم على قارعة طريق البطالة. وللمهتمين برجاء متابعة المقال القادم.
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 2248 - الجمعة 31 أكتوبر 2008م الموافق 01 ذي القعدة 1429هـ