انتهى المقال السابق إلى أنه في وجه زيادة المتطلبات المائية للقطاع البلدي/ المنزلي في دول مجلس التعاون الخليجي وتضخمها بسبب أنماط الاستهلاك الحالية، فإن خيار التوسع في إنشاء محطات التحلية سيكون هو الخيار الرئيس المتاح حاليا أمام المسئولين عن هذا القطاع لمواجهة هذه المتطلبات، ولذا فإنه من المتوقع أن تكون دول المجلس مقبلة على معدلات متزايدة في بناء محطات التحلية، وكذلك على استثمارات هائلة وكلف باهظة في مجال التحلية بشكل متزايد مع الوقت، وبأنه من المتوقع كذلك أن تزداد تأثيراتها السلبية على البيئة البحرية وجودة الهواء في المناطق المحيطة بمحطات التحلية.
ولذلك فإنه في ظل هذه المعطيات ليس أمام المسئولين عن تخطيط وإدارة المياه في دول مجلس التعاون من خيار بديل للاستغناء عن إنشاء محطات التحلية، وبدلا من ذلك فإن عليهم النظر إلى تقليل الكلف المالية والاقتصادية ؛لإنشاء هذه المحطات وتشغيلها وتخفيف الأضرار البيئية التي قد تنتج عنها قدر المستطاع، والذي يمكن تحقيقه بواسطة الكثير من الأدوات الإدارية المتاحة أمامهم.
... منذ حوالي عدة سنوات في مدينة نيويورك، ومع زيادة الطلب على المياه البلدية فيها، قام المسئولون عن المياه في المدينة بدراسة خيارات تزويد المياه، وكان الخيار الرئيسي أمامهم هو زيادة إمدادات المدينة باستخدام مصدر مائي سطحي وإنشاء محطة لمعالجة هذه المياه بحيث تكون صالحة للاستخدام المنزلي/ الشرب ومحطة ضخ تضخ المياه إلى الشبكة البلدية، وبالطبع فإن كلفة إنشاء هذه المحطة وتشغيلها سيتم تحميلها على دافعي الضرائب سكان المدينة المستهلكين لهذه المياه. إلا أن المسئولين وجدوا بأنه من الأجدى اقتصاديا أن تقوم المدينة بدعم مقداره 100 في المئة لاستبدال صناديق الطرد في منازل المدينة إلى أحجام أقل موفرة للمياه (3.5 جالون إلى 1.6 جالون)، مقارنة بالكلف الإنشائية والتشغيلية لخيار بناء محطة المعالجة، وأن الكميات التي سيتم توفيرها من جرّاء هذا التغيير ستغني المدينة عن الحاجة لإنشاء هذه المحطة لأكثر من عقد، وكذلك ستغنيها عن استغلال مصدر المياه السطحي الطبيعي والذي قد يؤدي إلى حرمان الأنظمة الايكولوجية والحياة الفطرية من هذه المياه التي تعتمد عليها، وكذلك الأنشطة الترفيهية والسياحية وغيرها. وبالفعل استغنت المدينة عن الخيار الأول لصالح هذا الخيار!
ويدل هذا المثال على أنه قد يكون من الأجدى اقتصاديا وتقنيا وبيئيا، وكذلك اجتماعيا، النظر أولا إلى خيارات ترشيد المياه وتقليل الهدر في القطاع البلدي عن الاستمرار في إتباع سياسات زيادة الامددات المائية المتمثلة حاليا في التوسع في محطات التحلية. وقد لا تحل خيارات الترشيد هذه المشكلة كلها، إلا أنها ستساهم، بلا شك، في تقليل كلف إنشاء البنى التحتية المتوقعة وتأجيلها لفترات زمنية طويلة، بالإضافة إلى تقليل الأضرار على البيئة البحرية والهواء.
وبنظرة تشخيصية سريعة لوضع المياه في القطاع البلدي في دول المجلس، سنجد بأن هناك العديد من المناطق التي من الممكن العمل عليها للمساهمة في تحقيق هذا الهدف. فلنأخذ مثلا قضية التسربات من الشبكة البلدية، فسنجد أن التقارير والدراسات والمباحث الميدانية المتوفرة حول معدلات التسرب من شبكة تزويد المياه البلدية في دول المجلس تشير إلى أرقام عالية نسبيا، وتتراوح في بعض الدول مثل: دولة قطر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ما بين 30 في المئة و40 في المئة من المياه المزودة الكلية، وتبلغ نحو 25 في المئة في مملكة البحرين. ويرجع ارتفاع نسبة المياه المتسربة إلى العديد من الأسباب، ولكن من أهمها غياب برامج الصيانة والمراقبة المستمرة لأنابيب الشبكة البلدية وقِدم الكثير منها. وتدل هذه النسب على أنه يمكن تحقيق كميات كبيرة من الوفورات المائية إذا ما تم خفض نسب التسرب هذه بواسطة وضع برامج للصيانة المستمرة والكشف عن التسربات. هذا بالإضافة إلى الوفورات المالية التي يمكن الحصول عليها، وخصوصا أن نسب كبيرة من هذه المياه تأتي من محطات التحلية، وكذلك تقليل المشكلات البيئية وكلفها التي تنتج عن هذه التسربات من أضرار على البنى التحتية من حيث تأثيرها على الشوارع والمباني وخطوط الاتصالات والكهرباء تحت الأرضية.
والمنطقة الأخرى التي يمكن التركيز والعمل عليها للمساهمة في تقليل متطلبات المياه البلدية في دول المجلس هي نمط استهلاك المياه في دول المجلس، أو بمعنى آخر معدل استهلاك الفرد من المياه، إذ تتسم دول المجلس، باستثناء سلطنة عُمان، بارتفاع متوسط استهلاك الفرد، ويصل في بعض الدول إلى درجات غير عقلانية، حيث يصل معدل استهلاك الفرد في بعض الدول مثل دولتي قطر والإمارات العربية المتحدة إلى حوالي 740 و630 لترا في اليوم، على التوالي، وفي مملكة البحرين ودولة الكويت يصل إلى 500 لتر في اليوم، بينما يصل في المملكة العربية السعودية إلى 300 لتر في اليوم. ويرجع ارتفاع معدل استهلاك الفرد إلى الكثير من الأسباب، وتشمل ارتفاع مستوى المعيشة، ونقص الوعي المائي العام في دول المجلس، وغياب أو عدم فعالية برامج المحافظة على المياه، وغياب قوانين إنشاء المباني الخاصة بالأجهزة المنزلية الموافرة للمياه، وغياب الرسوم على استخدامات المياه، وفي حال وجودها انخفاضها الشديد ما يؤدي إلى عدم فعاليتها في ترشيد المياه، أو عدم كفاءة تحصيل الرسوم (أنظر «سياسات الدعم... عامل مرشّد أم مشجع لاستهلاك المياه في المملكة»، الوسط، العدد 1388، 25 يونيو/ حزيران 2006).
ولذا فإنه إذا أريد تخفيض معدل استهلاك الفرد للمساهمة في تقليل متطلبات القطاع البلدي/ المنزلي، فإنه لا بد من العمل على إزالة هذه الأسباب والمعوقات، ويتطلب ذلك العمل على رفع الوعي في المجتمع الخليجي بقيمة المياه بشكل عام، وفي القطاع البلدي بشكل خاص من خلال برامج الترشيد الفعالة، وإدماج المواصفات التقنية التي تعمل على ترشيد المياه في مواصفات المباني، والأهم من ذلك كله، صوغ سياسة واقعية لتسعير المياه في القطاع المنزلي تحفز على الترشيد.
وهذان الخياران من داخل القطاع البلدي/ المنزلي؛ أي تقليل التسربات وتخفيض معدل استهلاك الفرد، يمكنهما أن يساهما بشكل كبير في تقليل معدلات الطلب المتصاعدة في القطاع البلدي/ المنزلي وتأجيل بناء محطات التحلية إلى عشرات السنين وتقليل كلفها الاقتصادية وآثارها البيئية على دول المجلس.
أما إذا نظرنا إلى خارج القطاع البلدي، فهناك أيضا، الكثير من مناطق الحل التي يمكنها أن تساهم في تحقيق الهدف المذكور أعلاه، وخصوصا في القطاع الزراعي، وسيكون هذا موضوع المقال القادم.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1633 - السبت 24 فبراير 2007م الموافق 06 صفر 1428هـ