حينما توجهت للجنوب، قبل أعوام مضت، لم يستغرقني الوقت للوصول أكثر من نصف ساعة إلى ساعة، اليوم بعد مخلفات العدوان الإسرائيلي، صار يستغرق أكثر من ثلاث إلى أربع ساعات، فالجسور لا تزال بعضها محطمة والازدحام على الاوتوستراد شديد للغاية، والضغط على الشوارع الفرعية ومفترقات الطرق تضاعف، وصارت بعض العربات تسير بعكس اتجاه السير على الاوتوستراد وعلى مرأى من «الدرك». مشهد الدمار في قرى الجنوب مأهول، وبصمات القذائف التي اخترقت الجسور وخلّفت الخرائب ومسحت البيوت وسوّتها بالأرض تبعث على النفس هلعا وحزنا عميقا، يتواصل مع مشاهد دمار الطرقات والأزقة وشلل الحياة أثناء الإضراب العام يوم الثلثاء، وحينما غابت الحكمة والبصيرة يوم الخميس المخجل عند جامعة بيروت العربية «بالكولا»، وقتها لم أتفوّه بحرف لصديقتي الصحفية التي رافقتني في جولة الجنوب وهي تردد: أنا بكره «إسرائيل»، وبكره الحرب، كتبت لي في الأيام السوداء: حاسة انو وصلنا على شفير الهاوية يا صديقتي. كان ردي عليها:
- حزني يشبه حزنك، ليس مثله، ليس بمقداره، لكنه يتماهى معه، ففي التسعينيات، كانت تحرق الإطارات والإشارات الضوئية عندنا، ويعم الغضب والفوضى شوارعنا وقتما تحرق محطات الكهرباء الفرعية في المناطق والقرى ونعيش ظلاما دامسا لأيام ساهرين على أصوات تفجير سلندرات الغاز، نستنشق غاز مسيل الدموع ورعب مشهد قوات الشغب وهي تحاصرنا حيث لا نستطيع العودة بأولادنا آمنين إلى بيوتنا، فنجبر على المبيت في بيوت الأصدقاء والأهل كالمشردين، كان علينا أن نشرح لأولادنا بالضبط ماهية الحكاية المستعصية والمعقدة، فحينما تصل النار إلى بيوتنا وقلوبنا وعقولنا، تغدو الخيارات من أمامنا شحيحة، لا يبقى غير الحزن والرفض لمظاهر التدمير المادي والنفسي واليأس المعنوي للفرد والمجتمع، والنجاة بالنفس من حال الاستلاب والتخلف والظلام والعزل والظلم والاستبداد!
من الدمار إلى المنتجعات
من ساحات الاعتصامات ومواقع الإضرابات والدمار والتوتر إلى الإقامة في منتجعات ألف ليلة وليلة في مدن النفط التي تشيَّد على غرار مدينة «نيويورك الخيال» مصغرة، ساحل البحر هناك رائع وكذا أحواض السباحة وما حولها من مزروعات، تذكرك بمنتجعات شرق آسيا، الطقس كان دافئا ومنعشا كما قلبي وأعصابي، كنت أسير حافية القدمين على شاطئ البحر وحيدة إلا من رفقة الشمس وصفاء السماء، شعرت لوهلة بخفة الريش، حتى تنبهت إلى الارتفاع الشاهق للبنايات الإسمنتية الخرساء قبالة الشاطئ، تلك التي أشعرتني بضآلتي وبأنني في المكان والزمن الخطأ، بالرغم من أن زبد البحر ورغوته البيضاء كان ينتشلني بين الفينة والأخرى، وأمواجه الوادعة تداعب قدماي الحافيتين على أطراف الساحل، وحبيبات رمله تغرقني في أحلام اليقظة وتنقلني إلى البحار والسواحل اللامتناهي، كنت أسير بمحاذاة العديد من السيّاح الذين يرتدي بعضهم تي شيريت وآخرون سحرتهم شمس الشرق فاكتفوا بقطعة أو اثنتين من لباس البحر تضفي عليهم شمسنا الحارقة اللون الأسمر للذكرى. شاهدت صديقتين في مثل عمري وربما أكبر بقليل تملأ التجاعيد جسدهما وتضاريس الزمن، قارنت بين موقفنا الشرقي نحو أجسادنا التي نخجل منها ونحكم تغطيتها وبين موقفهم النقيض. كانتا تبحثان عن محاراتهما وأصدافهما على الساحل، فامتلأت يد كل منهما ببعض المحارات والأصداف، لم تتوقفا عن الحديث بلهجتهما الإسبانية المميزة، كنت مثلهما أبحث بصمت عن صدفي ومحارتي التي مرت بي مرارا بألوانها المختلفة وأشكالها المتعددة بيد أنني أضعتها، لم أجد شيئا مغايرا عنها يستفزني لألتقطه بأصابعي، لذا اكتفيت بالنظر البعيد إليها، فأنا مازلت حتى تلك اللحظة أسيرة «لأم أحمد» وحفيدها «داني» و»الختيارية»، ولفعل المقاربات لصور الدمار والنيران الخامدة في حال ترقب وانتظار في ساحات الاعتصام.
البحر لا ثابت عنده
كلما غاصت قدماي في رمل البحر وتركت أثرهما، تداركتهما الأمواج ومحت أثرهما ثانية، فالبحر لا ثابت عنده، لا يحب الامتلاك، لا يفسح المجال للاستحواذ، لا سكون عنده، إنما اليقضة والمجهول هي أسراره. ابتسم لي حارس الشاطئ بعد أن ترك «صندقة» الحراسة، وأومأ لي برأسه وهو يسير باتجاهي سائلا:
- لما لا تنزلين للعوم في البحر؟
ابتسمت في سري، وأنا أردد، لو تعلم كم أعشق البحر، وأخافه وأرهبه في كل أوضاعه، كما أخاف الحرب المقبلين عليها. طرح علي الأسئلة المكثفة المعتادة، تحدث عن البلاد وتحديثها وكأنها وطنه، قائلا: أنه ولد هنا ولا يعرف غيرها وبلده الأصلي، قلت له:
-إذا لا بد أن تكون «...» الجنسية!
ابتسم بخبل، ربما سأل نفسه، لما تتجرأ هذه المجنونة بإلصاق تهمة «الهوية....بي» ذلك قد يوقعني في مشاكل لا حصر لها، من مثلي يجرؤ على التفكير بذلك هنا!
ركنت جسدي على المعقد جانبا، أتامل نموذج المدينة التي زرتها قبل عام وكانت مجرد هياكل عظمية ومشاريع استثمار وبناء، واليوم تستقبل سياحا من أقاصي الدنيا، أنجز منها 70 ناطحة سحاب لا تنتهي طوابقها عند حدود المائة طابق، ويقال إن المشروع سيكتمل مع نهاية 2007، بـ 200 مبنى تنافس في جذب السياح من كل أنحاء العالم، فهم يكثرون من التداول في شئون المال والاقتصاد والاستثمار، ويمتعضون من التداول في شئون السياسة! كل ذلك جميل وبديع، بيد إنني لا أجد غايتي في هذه المدينة، لا تستفزني رائحتها، لا أستطيع مصادقتها ولا الاختلاء بها ولا حفظ أسراري في بطنها، ولا النوم المريح في حضن أعشابها المصطنعة، ولا التفكير الصافي بين أركانها، لا أجد من يبتسم لي من غير أن أمد يدي له بالبقشيش. زادت الأجناس والملل في أرجائها، كنتونات لكل الجنسيات يعرفون بالمناطق التي يسكنونها، لو أوغل البحاثة الاجتماعيون في درسهم كما يدرسها رجال المال والأعمال، لكشفوا عن مآزق أهلها القادمين. رأس المال حقير، والأسوأ منه من يملكه ويعشقه ويكون عبدا له وسلطانا باسمه.
استعجلت عودتي، لأختبئ بين صفحات كتابي، الذي يسع بمداه قلبي وعيوني، فلا الجولات بين المجمعات التجارية والأبنية الشاهقة أو الأسواق الشعبية تبعث الجديد والمبهر والمدهش، غير دهشتي، من أن ذلك لا يحرك في الجوف غير المقارنات ما بين مدن النفط التي تعيش بلادتها والكنتونات في أرجائها، وبين «بغداد الرشيد» التي تحترق ويقتل أهلها بدم بارد، و»أم أحمد» وبسطات «الختيارية» و»وداني» في بيروت التي تنتظر مصيرها ليقرره الغرباء!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1632 - الجمعة 23 فبراير 2007م الموافق 05 صفر 1428هـ