العدد 1632 - الجمعة 23 فبراير 2007م الموافق 05 صفر 1428هـ

التقدمي الاشتراكي... وسيكولوجية الطوائف (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يعتبر كمال جنبلاط محطة مفصلية في تاريخ العائلة السياسي. فهذا المفكر الشاب والزعيم الإقطاعي اكتشف مبكرا وبحكم ثقافته الخاصة المتقدمة على جيله أن تاريخ العائلات الإقطاعية وزعاماتها السياسية سائرة إلى الزوال بسبب التقدم الاجتماعي ونمو طبقات وسطى ومتعلمة. وساعد هذا الاكتشاف المعرفي المبكر الزعيم التقليدي الشاب الذي تربى يتيما منذ نعومته على التقاط تلك المفارقة التاريخية بين لحظات الماضي والأيام الآتية. فالزعامة السياسية موروثة ولكنها لن تستمر إذا ما قام بتحديثها ورفدها بالحداثة التي تنتمي إلى الحاضر وتلك الفضاءات الدولية وما تولده من ثقافة جديدة تعيد تشكيل قوة تستطيع الصمود أمام استحقاقات الزمن ومستقبل لبنان الذي سيختلف ولن يكون على ما هو عليه في الماضي.

تشبه شخصية كمال جنبلاط صورة ذاك «المثقف العضوي» الذي رسم خطوطها المفكر الماركسي الإيطالي انطونيو غراشي حين تحدث عن دور «الأمير الحديث» الخاص في مجتمعات تتحكم في آلياتها السياسية تشكيلات اجتماعية ليست بالحديثة ولا بالقديمة. وهذا النوع من المجتمعات المعاصرة يعاني دائماَ من أزمة تاريخية فهي ليست نامية إلى درجة التطور الصناعي كما هو حال أوروبا الغربية/ الشمالية وهي ليست متخلفة إلى درجة الانحطاط الاجتماعي والركود الثقافي والموات الزمني. مثل هذه المجتمعات تكون على النقيض من الحالتين وتتحكم بها مجموعة قوانين متضاربة في جذورها ولكنها موحدة في زمنها. فهي مجتمعات معاصرة وليست عصرية، وتقليدية وليست قديمة، ونامية وليست متخلفة، إقطاعية وليست إقطاعية، رأسمالية وليست رأسمالية. إنها مجتمعات غريبة في تنوعها الاقتصادي وثقافاتها المتداخلة وتعدد أنماطها في الحياة والمعاش. إنها ببساطة مجتمعات نصفية (نصف ونصف) نصف رأسمالية ونصف إقطاعية، نصف تقدمية ونصف رجعية، نصف حداثية ونصف تقليدية. وبحكم هذا التركيب المعقد والمتداخل في أنماطه تتشكل هويات متنافرة أحيانا تقوم على ثنائيات تعكس بموضوعية وكالمرآة صورة الأرض وآليات الحراك الاجتماعي - الثقافي التي تتحكم بتحريك المشاعر والعصبيات والحساسيات والوعي وانفعالاته والإدراك وانعكاساته المعرفية. ومثل هذه التشكيلات الاجتماعية تتميز عادة في تنويع مصادر طاقاتها وتركيبها ومزجها في آليات تستفيد من القوانين الموروثة وتستوعب الجديد الوافد إليها لإعادة توظيفه في برنامج أو حزب أو دولة... أو تجديد زعامة من خلال تحديثها وتنشيطها بأدوات معاصرة.

مواصفات «الأمير الحديث» تنطبق فعلا على كمال جنبلاط. فهو ورث زعامة تقليدية في جبل لبنان من والدته التي رعته وربته في مدارس حديثة. وفي الآن قام هذا الزعيم الشاب في توظيف علومه ومعارفه وثقافته الغنية بالاطلاع على مدارس الفلسفة والاجتماع والديانات من مغربها إلى مشرقها في تأسيس حزب حديث يتعامل مع الحياة المعاصرة بأسلوب غير تقليدي.

بدأ جنبلاط الأب عمله السياسي في العشرينات من عمره وكان دائما يتردد في خياراته النهائية. فهو رجل علم وثقافة وشاعر ومتصوف ومترفع عن الحياة الدنيا وفي الآن هو زعيم فرضت عليه الحياة التقليدية التعامل اليومي مع الناس ومتابعة مشكلاتهم وحاجاتهم. وبحكم هذه المسئولية الموروثة والمفروضة قسرا عليه اختار جنبلاط الأب طريق المزاوجة بين المتعارضات. فهو صوفي يؤيد حركة اللاعنف التي أسسها الزعيم الهندي المهاتما غاندي، وهو سياسي يتعاطى مع الشئون المحلية بكل ما تعنيه من تجاذبات عصبية ضيقة، وهو فيلسوف يتابع المجادلات النظرية ويقرأ محاوراتها منذ الكتابات اليونانية وصولا إلى النتاجات الأوروبية المعاصرة، وهو أيضا زعيم أقلية تنتمي إلى طائفة معزولة في جبل لبنان ستكون نهايتها الزمنية قريبة إذا لم يبادر إلى فتح آفاقها وعقلها ووعيها على عالم يتطور بسرعة.

تأسيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» جاء نتاج هذا الوعي المتقدم في اكتشاف آليات التطور. وفكرة التأسيس تبلورت قبل سنوات من رحيل والدة كمال جنبلاط التي توفيت في العام 1951. ويقال إن والدته لم تكن متحمسة للفكرة لأنها على نقيض الواقع. إذ كيف يكون الإقطاعي وصاحب الأملاك الواسعة زعيما اشتراكيا؟ وكيف يمكن الجمع بين زعامة درزية محلية ونزعة ثقافية عالمية؟ كل هذه الاستفهامات تعامل معها جنبلاط الأب بروية ودقة وأحيانا بقوة وانفعال. فهو مثلا قام بتوزيع الأراضي الموروثة على الفلاحين والمزارعين واكتفى بالحد الأدنى لمتطلبات الحياة البسيطة والمتواضعة، لكونه من دعاة اللاعنف ويميل إلى التقشف في الطعام والشراب والملابس. وهو أيضا كان رجل دولة (نائب عن منطقة وتحمل مسئولية وزارات مختلفة في عدة عهود) ورجل فكر يكتب المقالة السياسية ويحاضر في الفلسفة والتاريخ والاجتماع ويقود المظاهرات والتجمعات الشعبية ويخطب بها تلك الكلمات الحماسية والنارية. وهو أيضاَ رجل المعارضة الأول الذي قاد انتفاضة سياسية ضد الرئيس بشارة الخوري وانتهت بسقوطه ثم قاد انتفاضة شعبية ضد الرئيس كميل شمعون وانتهت برفض التجديد له. وهو أيضا رجل التفاوض والتسويات إذ دعم مشروع فؤاد شهاب التنموي وأيد تعزيز موقع الدولة ودورها في قيادة التحول الاجتماعي.

جمع كمال جنبلاط كل هذه الثنائيات فهو تقليدي حديث، ودرزي لبناني، ولبناني عربي، وعربي أممي، وديمقراطي اشتراكي، وصوفي ثوري. فهو حليف عبدالناصر وصديقه، حليف الاشتراكية الأوروبية المعتدلة وصديق الاتحاد السوفياتي، وهو معجب بالفلسفة الهندية والتجربة الصينية وصديق ياسر عرفات وحليفه اللبناني والمدافع عن قضيته.

هذا المثقف العضوي (الأمير الحديث) بحسب وصف وتحليل غرامشي لسمات ثقافة تتشكل في مجتمع متحول لم يكتمل تطوره التاريخي بعد، يمكن قراءة بعض صورها المحطمة في وريثه السياسي وليد جنبلاط.

ابنه وليد ورث الحزب والزعامة والسياسة ولم يرث الفكر. فالفكر لا يورث. وكل جيل له ظروفه الدولية والإقليمية والمحلية وهو يخضع لنتاجات سياسية مختلفة وبيئة ثقافية ليست متطابقة بالضرورة مع زمن سابق. وهذه الحال يمكن قراءة عناوينها المختلفة في نماذج مختلفة. فالابن يرث الأب ولكنه ليس بالضرورة سيكون مطابقا له. فالتطابق من الحالات النادرة وهذا ما يمكن ملاحظته من ذاك الاختلاف بين جنبلاط الأب وجنبلاط الابن.

حين أسس كمال جنبلاط الحزب الاشتراكي حرص في البداية أن يتشكل من مناطق مختلفة وطوائف ومذاهب لبنانية متعددة تتوحد على أفكار معاصرة ونظريات حديثة تتجاوز الانقسامات والعصبيات الموروثة. ونجحت الفكرة في السنوات الأولى إلا أن آليات الواقع وسيكولوجية الطوائف اخترقت الحزب وزعزعت توازنه وأخذت فروع الاشتراكي بالانكماش والانكفاء إلى أن انغلق نسبيا على طائفة واحدة. فالقاعدة الشعبية للحزب الآن درزية في معظمها بسبب اختلاف الظروف وانتصار الزعامة التقليدية الموروثة على الحزب الحديث وأفكاره المستحدثة. فالجنبلاطية في بلد تتحكم فيه قوانين الطوائف وتقوده تشكيلات اجتماعية ليست قديمة ولا حديثة أقوى في النهاية من اشتراكية منقولة أو ديمقراطية تأسست في مجتمعات تطورت تاريخيا وانتقلت من الزراعة إلى الصناعة.

حين اغتيل كمال جنبلاط في فضاء الاقتتال الأهلي - الإقليمي دخل ابنه وليد عالم السياسة اليومية من باب مختلف. ولأن الظروف تنتج آليات العمل التنظيمي وتحدد برنامج الأولويات اختلف جدول أعمال الابن عن الأب بسبب متطلبات الواقع المضطرب أهليا الذي أملى على الوريث حاجات ميدانية تتجاوز ميثاق الحزب ودستوره وأفكاره. فوليد في النهاية ابن واقع متغير تتحكم فيه مجموعة آليات جمعت في لحظة زمنية واحدة مفارقات ثنائية انعكست على صورة بلد محطم طائفيا وعائلة مضرجة بدماء موصولة بتاريخها المأسوي/ التراجيدي تحاول جاهدة تغيير الثابت وتثبيت المتغير. فالصورة التي أنتجت شخصية وليد جنبلاط المعقدة في مصادرها وروافدها ليست نتاج لحظة زمنية محددة وإنما خلاصة اندماج ثنائيات مركبة من عناصر متنافرة بعضها استمر يعاند الواقع وبعضها سقط بحكم التطور وتحولات الزمن.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1632 - الجمعة 23 فبراير 2007م الموافق 05 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً