مع إقرار الكل بأن الماضين من علماء المسلمين بشر مثلنا، يخطئون ويصيبون، إلا أن هالة من التقديس تم إضفاؤها على ما تركه أولئك، فنظريا إنهم غير معصومين، ولكن عمليا يتم تبني آرائهم وكأنهم معصومون، حتى أن بعض الباحثين الإسلاميين يكتفي لإثبات وجهة نظره بمجرد أن فلان العالم الذي توفي في القرن الثالث أو الرابع الهجري قال ذلك.

وبدأ التشبث بعقل الماضين على المستوى العلمي والنظري في نطاق معين نتيجة لغياب الاجتهاد وتوقفه في بعض المدارس الإسلامية، وما فتئ هذا الجيل والأجيال التي سبقته تبرر لنفسها هذه التبعية بمقولة يكررونها دائما وهي: «ما ترك السابقون للاحقين شيئا» هذا مع أن الإمام أبا حنيفة يرفض حتى التذرع بأقوال التابعين، إذ يقول عنهم: «هم رجال ونحن رجال».

والتشبث بعقل الماضين يُعدّ نوعا من التقديس، أعاق نمو بعض العلوم الإسلامية، فمثلا يذكر الشهيد الإمام محمد باقر الصدر، أن علم الأصول لدى الشيعة والذي تكامل وظهرت ملامحه على يد الشيخ أبي جعفر الطوسي من خلال كتابه «العدّة» الذي ألفه أثناء وجوده في الحوزة العلمية في بغداد، هذا العلم جمد بعد وفاة الشيخ في النجف سنة 460 هـ بجانب الحوزة الجديدة التي أسسها، وجاء من بعده جيل بل أجيال تدافع عن كل ما طرحه وترفض نقده بشدة، بل استفحلت النزعة التقديسية في نفوس المريدين لدرجة أن زعم بعضهم رؤية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في المنام يشهد بصحة كل ما ذكره الشيخ الطوسي في كتابه الفقهي «النهاية». غير أن بقاء باب الاجتهاد مفتوحا غيّر وبدّل وأكمل الناقص وصحح الخطأ. وسيادة التيار الأصولي، الذي يتشدد حيال تقليد الفقهاء السابقين، حال دون تبني آراء الماضين في بعض المسائل الفقهية، فضلا عن بعض آرائهم التي كانت نتاجا للظروف التي عاصروها، فضعف تأثير تلك الآراء السلبية تجاه بعض الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى حتى كادت تنتهي في الزمن الحالي، وذلك لتبدل مفاهيم بعض المصطلحات نتيجة لتغير أحوال الناس وتوجهاتهم.

إن المشكلة الكبرى حين يمتد التقديس ويطال حتى ما أفتى به بعض علماء الماضين وفقا لظروف عصرهم الموضوعية.

في سنة 1981 تم اغتيال الرئيس المصري السابق أنور السادات، ويذكر أحد المفكرين المصريين أن تنظيم الجهاد الذي تم تأسيسه منذ بداية السبعينات قد قرر اغتيال الرئيس المصري أنور السادات الذي أطلق على نفسه الرئيس المؤمن، وفقا لفهم هذا التنظيم لفتوى أحد المشايخ الماضين ممن عاش في القرن الثالث عشر الميلادي.

المعروف أن الإنسان يتأثر بالظروف المحيطة به، ويتأثر حكمه بمدى فهمه للموضوع، فجواز شرب ما بالكأس يتوقف على تشخيص ما به هل هو خمر أو ماء. بل يمتد تأثر العالم ببعض المعطيات فتؤثر حتى على فتاواه في بعض قضايا الفقه البحتة جدا. أحد العلماء القدامى، ولأنه كان يمتلك بئرا في منزله رفض أن يفتي بخصوص أحكام ماء البئر، خوفا من تدخل المصلحة الذاتية التي تختبئ في نفسه فتؤثر على صحة فتاواه.

هذا بخصوص القضايا الفقهية البحتة، فكيف بأحوال الفتن والأحداث الحياتية، إذ تزداد نسبة الخطأ نتيجة فهم الموضوع والضغط الشديد والتأثير النفسي للبيئة المحيطة، لهذا يمكن أن تصدر أحكام وفتاوى تجاه بعض الأطراف شاذة وغريبة جدا، تكفّر وتستحل منهم ما حرّم الله. فضلا عن ذلك، فهي أحكام صادرة نتيجة لظروف سابقة لا يعيشها إنسان هذا الجيل، ولو كان أصحابها أحياء لربما تغيّرت وجهة نظرهم لذلك. غير أن بعض الفئات ذات الأغراض الشيطانية تصر هذه الأيام على إسقاطها قسرا على واقع أصغر من حجمها بمرات، حتى لو أصبح هذا الواقع يتعثر في هذا الثوب المهلهل الذي ألبسه إياه هؤلاء المغرضون. وفي ظل أجواء الفتنة الحالية التي توشك بعض البلاد الإسلامية أن تقع في سعيرها، يتخذ دعاتها والنافخون فيها من تراث الماضين وقودا لإشعالها وزيادة أوارها، وحاليا نشهد نبشا عجيبا غريبا في أقوال أولئك وكأنها أقوال صدرت عن الأنبياء والمعصومين، إذ يتم تسخير ذلك كله في عملية من التراشق المذهبي وإسناد دعاوى الحاضر بإسقاط حوادث الماضي عليها بأية صورة كانت من أجل تهيئة المناخ لإشعال الحرائق الطائفية ومن ثم الدفع بسرعة في اتجاه الوقوع في الهاوية السحيقة، ويتناسى هذا النفر أن الأطراف الأخرى ربما في جعبتها من هذا التراث مثل ما لديهم وربما أكثر بأضعاف المرات.

حتى مشايخ التكفير، والذين لم يتحدثوا في شأن سياسي طيلة أكثر من خمسة عقود، وأفتوا في السنوات الأخيرة بحرمة العمليات الاستشهادية في فلسطين واعتبروها إلقاء للنفس في التهلكة وقتلا للنفس المحرّمة، هؤلاء الذين كانوا يتغاضون عن التفجيرات وتفخيخ السيارات في العراق، والتي كانت تقتل آلاف من البشر، ينوحون حاليا بصوت طائفي كريه على ما يجري بعد أن ساهم سكوتهم السابق طويلا في تأجيج نار الصراع الأهلي هناك.

والمثير للتساؤل وجود تغاضٍ عربي رسمي عما يقوم به هذا التيار في الوقت الحاضر من نشر الفكر التكفيري في الكثير من البلاد العربية، ففي بعض هذه البلاد يتم بيع الكتب المسيئة لطائفة من المسلمين والتي تكفرهم في الشوارع، وفي بلدنا هذا يتم استيراد كميات كبيرة من الأقراص المدمجة والكتيبات والنشرات التي تصب في المصب نفسه ، لهم أعوان هنا يوزعونها حتى في مساجد الطائفة المستهدفة، وبعض الأماكن العامة بحسب الطلب.

وفي هذا الإطار، نتساءل ما دور عقلاء القوم من مختلف المذاهب؟ وما هو دور المثقفين والوطنيين؟ وأين وظيفة الجهات الرسمية في احتواء بذور الشر التي تتطاير شررها علينا من الخارج ويبذرها البعض في الداخل؟