تعتبر شخصية وليد كمال جنبلاط الأكثر إثارة للجدل في المشهد اللبناني. فهو زعيم محبوب ومكروه في آن. وهناك أكثر من طرف ينتظر الفرصة للانتقام منه مقابل الكثير من الأطراف المستعدة للتقرب منه وحمايته من المخاطر.
هذه الشخصية تحتاج إلى قراءة مستقلة لتفكيك تعقيداتها نظرا إلى تداخل الهويات في رجل واحد. فهو «الزعيم الدرزي» كما يطلق عليه البعض، ورئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» كما يصنفه البعض الآخر، ورئيس «اللقاء الديمقراطي» النيابي أحيانا، وقائد من قادة حركة قوى «14 آذار» في أحيان أخرى. فكل هذه التسميات والأوصاف أطلقت على رجل واحد، وهي في النهاية كلها صحيحة.
وليد جنبلاط فعلا «زعيم درزي» من زعماء تلك الطائفة/ الأقلية التي تعيش في الشطر الجنوبي من جبل لبنان والبقاع الغربي ومنه امتدادا إلى الجولان وشمال فلسطين وشمال الأردن ومنه تمتد إلى منطقة حوران (جبل العرب). وهو أيضا رئيس الحزب الاشتراكي اللبناني الذي أسسه والده في نهاية الأربعينات وطرح شعارات تقدمية ومجموعة أفكار تحديثية وفلسفية معاصرة جمعت بين الليبرالية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية وأصبح جزءا من «الأممية الثانية» الأوروبية الديمقراطية الاشتراكية. وهو أيضا رئيس كتلة نيابية كبيرة نسبيا تضم شخصيات مهمة من مختلف المناطق والطوائف والمذاهب وذات تأثير سياسي على الحياة البرلمانية. وهو أيضا من أبرز قادة «14 آذار» وصديق شبه دائم لرفيق الحريري ومشروعه التنموي والعمراني.
كل هذه السمات والقسمات والتلاوين السياسية المتنافرة اجتمعت في شخصية وليد جنبلاط وباتت تشكل مصدر قلق للخصوم ونقطة توتر في علاقاته مع الحلفاء. فمثل هذا التنوع يطرح علامات استفهام ويطلق الشكوك ويعطي الأعداء فرصة للنقد والاتهام والتجريح. كيف يجمع هذا الشخص المتناقضات؟ وهل من الممكن أن يكون الشخص نفسه قائد ميليشيات سابق ورجل سلام؟ وهل من الممكن أن يكون من ينادي بالديمقراطية والاشتراكية والتقدمية ويتحدث الانجليزية والفرنسية بطلاقة ويقرأ آخر نتاجات الفكر الأوروبي ويطلع على آخر منتوجات العلوم السياسية هو من يقود طائفة صغيرة تتحرك في ضوء الحساسيات المذهبية والمشاعر العصبية؟
هذا الجمع بين الحديث والقديم وبين الجديد والمتخلف أعطى إشارات متناقضة لرسم صورة غير واضحة عن شخصية زعيم سياسي كان له تأثيره في ترسيم حدود خريطة لبنان المعاصرة خلال فترة الحروب الأهلية - الإقليمية أو بعد توقفها الشبه النهائي في خريف العام 1990.
اندماج ثنائيات
هذه الشخصية المعقدة في مصادرها وروافدها ليست نتاج لحظة زمنية محددة. فالرجل هو خلاصة اندماج ثنائيات تركبت من عناصر متنافرة ومتداخلة أسهمت في تصنيع هذه الهوية المتداخلة في خطوطها وخيوطها. فهذا النوع لا يأتي مصادفة ولا يظهر فجأة ومن دون تاريخ موروث عن الماضي.
عائلة جنبلاط كردية الأصل (جانبلاط) تعربت وكان لها تاريخها في العمل العسكري والنشاط التنظيمي منذ عهد المماليك في بلاد الشام. وحين بدأ العثمانيون حملتهم على بلاد الشام ومصر في العامين 1516 - 1517 لانتزاعها من سلطة المماليك وقفت أسرة جنبلاط مع الفاتح الجديد وتعاونت مع أمراء جبل لبنان في دعمهم. وهذا التبدل في الموقف عزز من دور الأسرة ورفع من مكانتها العسكرية. وفي عهد العثمانيين تطور دور هذه الأسرة بفعل التعاون بين زعيمها جانبلاط بن قاسم وأمراء السلطنة. وأدى هذا التقدم في دور الأسرة إلى نجاح علي بن حسين (حفيد جانبلاط) في تشكيل إدارة مستقلة لحكمه امتدت من حماة إلى أدنه. وبرز دور الأسرة خلال فترة حكم الأمراء المعنيين وتحالف آل جنبلاط مع الأمير فخرالدين المعني الثاني في معركته ضد والي طرابلس العثماني يوسف سيفا. ومنذ تلك الفترة التي شهدت صعود وهبوط العلاقة المتوترة مع السلطنة العثمانية أخذت أسرة جنبلاط تنقل نشاطها إلى جبل لبنان فاستوطنته وتحصنت به منذ عهد جانبلاط بن سعيد.
نجح جنبلاط بن سعيد (توفي 1640) في تأسيس مواقع سياسية لزعامة الأسرة في الشوف وتحولت العائلة من بعده إلى رقم صعب في المعادلة وأخذت تؤثر رويدا في الحياة العامة. وفي عهد الأمراء الشهابيين (ورثوا زعامة الجبل عن الأمراء المعنيين) اختلف بشير بن قاسم جنبلاط مع الأمير بشير الشهابي فأقدم الأخير على التحالف مع والي عكا (العثماني) عبدالله باشا ونفذ حكم الإعدام ببشير جنبلاط في العام 1825.
عانت أسرة جنبلاط الكثير في تلك الفترة التي شهدت بداية تحولات دولية كبرى وصراعات عسكرية بين السلطنة العثمانية وحملة إبراهيم باشا المصرية. وحين انتهت تلك السنوات العاصفة بخروج قوات محمد علي باشا من بلاد الشام في العام 1840 أخذت الأسرة تستعيد قوتها وتسترد مواقعها في خضم صراعات طائفية ومذهبية عنيفة ضربت جبل لبنان نحو 20 سنة من الاقتتال الأهلي.
تاريخ الأسرة العنيف والمحكوم بالعواصف السياسية والمجبول بالاصطراع العسكري والاغتيالات والقتل والتشرد أحيانا والصعود أحيانا أخرى صنع تلك الصورة المأسوية للعائلة. فالكثير من وجوه وقادة الأسرة تعرض للسجن أو المطاردة أو الاغتيال أو الإعدام وصولا إلى والد وليد جنبلاط. فالأب كمال جنبلاط (مؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي) تعرض أيضا للاغتيال في العام 1977 في ظروف غامضة في مطلع الحروب الأهلية - الإقليمية. والد كمال جنبلاط (فؤاد) تعرض أيضا للاغتيال في العام 1922 الأمر الذي دفع بأرملته (الست نظيره) إلى حمل أعباء العمل السياسي وتربية ولدها كمال في انتظار أن يصبح في سن الشباب ليكمل عنها المسيرة الصعبة والشائكة في بلد تكثر فيه التضاريس الطائفية والمذهبية.
بدأ كمال جنبلاط عمله السياسي باكرا. ومنذ سن الشباب تحول هذا الزعيم التقليدي إلى شخصية قيادية تقدمية منفتحة على الأفكار الاشتراكية والنظريات الفلسفية الأوروبية والشرقية. وأصبح البيك - المثقف سليل عائلة إقطاعية وفي الآن صاحب مخيلة شعرية وأدبية وصانع مدرسة فكرية تستقي فلسفتها الخاصة من مجموعة روافد اجتماعية واقتصادية وسياسية متباينة في مصادرها الايديولوجية ومنابتها الثقافية.
هذا المزج بين الحديث والقديم وبين المستقبل (الاشتراكية الإنسانية) والماضي (الزعامة الإقطاعية الموروثة) شكل ذاك الإطار العام الذي نشأ فيه وليد وتربى وتعلم. فالابن هو وليد الأب في تكوينه النفسي والثقافي وهو نتاج ذاك التاريخ الخاص المركب من محطات زمنية تولدت خلالها الطموحات السلمية والصراعات العنيفة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1630 - الأربعاء 21 فبراير 2007م الموافق 03 صفر 1428هـ