يعلم الجميع أن هناك من الدواء ما يتم استخراجه من بعض السموم، وخصوصا سموم الأفاعي والعقارب، لكن الثقافة العامة للناس ولاسيما البسطاء منهم، تأخذ الحيطة والحذر الدائم من هذين المخلوقين المعروفين بالمكر وانتهاز الفرص للقتل والترويع بشتى الطرق، من دون سائر المخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وكما يقولون «لله في خلقه شئون».
لكن ما يجعل العقرب والثعبان مضربا للأمثال كلما كان الحديث عن الغدر والمكر والخبث والدهاء، وكلها صفات ذميمة يمقتها الله والناس أيضا، تلك الطريقة التي يعتدي بها كل منهما على المخلوقات الأخرى وبخاصة البشر على وجه التحديد، على رغم أن الله جلّ جلاله قد كرم الإنسان «وكرمنا بني آدم» وجعله أفضل من الملائكة، ويبدو أن العقارب والثعابين يصنفون الناس على أساس عرقي وعنصري وحتى مذهبي، فيعترفون لبعضهم بالحق في الحياة الكريمة، ويبالغون في الإساءة ومهاجمة البعض الآخر، فينفثون في وجهه السموم القاتلة حتى يزيحوه من على وجه البسيطة.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ،فإن فصيلة العقارب تختلف عن فصيلة الثعابين برغم أنهما يلتقيان في كون سمهما قاتلا، ومن أغرب القواسم المشتركة بين العقرب والثعبان، الوسائل التي يستخدمها كل منهما في النيل ممن يضعونه في خانة الأعداء، فالعقرب يستخدم شوكته الموجودة في نهاية ذيله، المسممة والمصممة لكي تخترق الفرائس التي يطاردها بشكل مباشر، بينما يقوم الثعبان باستخدام أنيابه ولسانه السامين للغرض ذاته وهو القتل العمد، وفق طريقتين مباشرة وغير مباشرة.
ومن البديهيات التي يعرفها الجميع أنك تستطيع أن تكتشف وجود الثعبان في محيطك بطرق عدة، فهو كبير الحجم، يجرجر نفسه متلويا على الأرض، يخلع جلده ويبدل لونه عاما بعد عام متكيفا مع البيئة التي يعيش فيها، فتارة تراه أصفرا كلون تراب الصحاري، وتارة تراه أحمرا... أو أخضرا... أو أملح بحسب البيئة التي يأكل من مراعيها... وفي أحيان كثيرة يكون لونه رصاصيا... ربما تمشيا مع طبيعة الرصاص القاتلة.
لذا فإن عددا كبيرا من الناس يفضلون تغطية أطعمتهم وأشيائهم عن الثعابين، لكي لا تصاب هذه الأشياء بــ «هفة حية» سواء كانت هذه الهفة صغيرة أو كبيرة؟ (تسميم الطعام لممارسة القتل غير المباشر)، وهم في أغلب الأحيان يحرصون على السكن في بيوت لا يستطيع الثعبان دخولها وتعريض أهلها لخطر العض (وسيلة مباشرة للقتل) برغم أنهم على الأغلب يستطيعون معرفة الثعبان من آثاره وخط سيره الذي لا تخطئه عين... ولا يتوه عنه قلب سليم!
إلا أن العقرب يختلف عن الثعبان؛ لأنه يختبئ في الثياب، أو ينام في فتحات المكيف، وفي زوايا الدولاب، وأحيانا يختبئ وراء الأنساب والأحساب، وفي مرات أخرى تراه منغمسا في داخل الشراب، وعندما تشعر بوجوده سرعان ما يغادر مكانه ويختبئ في شقوق الجدران أو الأبواب، فتبحث عنه فلا تراه، ولا تجد له أثرا... وكأنه سراب... وبينما أنت غارق في النوم أو منشغل باستقبال الأهل والأصحاب، ينسل من مكمنه ليأخذك على حين غرة ويفاجئك بضربة قاتلة لم تحسب لها حسابا.
وهنا تستنفر كل ما لديك من مصطلحات ومعارف، وتبحث عن أقرب خبير في علم العقارب والأنساب، وهل الآثار التي وجدتها هي لعقرب قاتل، أو أن صاحبها من النوع الكذاب، فتسأل نفسك هل يمكن رفع الأمر إلى أحد النواب، ليطالب بالعزل الصحي، وفرض حظر على جميع أنواع الثعابين والعقارب التي تجوب البلاد بلا رقيب أو حساب.
وحين يأخذ الموضوع ما يستحقه من متابعة وطرح الأسئلة والتهديد بالاستجواب، تنتقل القصة إلى صدر الصحف اليومية، وتبدأ الأقلام في الكتابة والاستكتاب، وسرعان ما تكتشف أن آثار الثعبان قد ظهرت لها بعض الشواهد والآثار في اجتماعات اللجان وبعض جلسات المجلس المهاب، ثم تعرف بأن العقرب ربما ضمن العيش مدللا في أحد مقاعد مجلس الشورى، وأصبح ممثلا للشعب بالتعيين وليس بالانتخاب.
وبين فينة وأخرى يطل عليك العقرب مرتديا أفخر الثياب، والغريب أنه يتحدّث بالعربي، على رغم أن من يعرفون الأصول والفصول يقولون إن بعض جيناته الوراثية يعود إلى بلاد يكثر فيها سقوط الأمطار وتتوشح بالشال الأسود كناية عن الحزن والوقار، والشال الأبيض كناية عن تمسكها بالعفة والطهارة، وتغطي قمم أشجارها أسطح منازلها الأمطار والثلوج ؛لتغسل عنها غبار الكراهية والحقد المنبعث من بعض ضعاف النفوس الحاقدين، لمجرد أنها تركع متبتلة خاشعة لله سبحانه وتعالى كلما ذكر اسم محمد وآل بيته الطيبين المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
ثم تزداد استغرابا حين تعرف أن هذا العقرب قد امتلأ قلبه حقدا وكراهية على أرض الآباء والأجداد، وأنه يحاول بكل جهده أن يثبت بأنه لا يمت لها بصلة، فتراه يحاربها ويهاجم كل من يتحدّث لغتها، أو يقر لها بحق العيش في سلام، أو مقارعة أبناء الزنا والحرام من الصهاينة وأبناء العم سام، حتى بات الجميع يشكون في أصل المشكلة ويبحثون عن الأسباب التي تجعل العقرب يتنكر لأصله وفصله، ويصرّ على مهاجمة كل من يمت له بصلة، وأغرب ما في الأمر أن الناس قد اكتشفوا أن هذا العقرب قد طوّر من أدواته ووسائل دس سمه للناس، تماشيا مع التطور التكنولوجي فراح يستخدم وسائل حديثة في البحث والاتصال وكشف النقاب تحت كل حجر ومدر، عن كل المحبين لمذهب داحي الباب، من أجل أن ينزل عليهم السباب والعذاب ويدعو الآخرين ؛لأن يتعاملوا معهم بالقمع والإرهاب.
ولأن هذا العقرب من غير المعتادين على العيش مع الدماء النقية، نجده يبالغ في الإساءة إلى كل المنتمين إلى الدولة الصفوية، والفاطمية، والإدريسية، والبويهية، بحجة الانتماء إلى الأفكار الشيعية، على رغم أنها دول قد ساهمت في نشر تراث الإسلام، وعملت على ترسيخ مفاهيم العيش المشترك بين المذاهب والسلام، وشيّدت لنا أهم مظاهر الحضارة الإسلامية التي عرفتها البشرية على مر الدهور والأيام.
أحد العارفين ببواطن الأمور زعم أن هناك حبا وهياما، قد وقع بين العقرب وعدد من أبناء العم سام، وأنه بسبب هذا الارتباط الغارق في القبائح والآثام والأوهام، قام العقرب بالسعي للانتقام من كل اتباع الإمام علي عليه السلام؛ لأنه هو الذي حطم الأوثان والأصنام، ولأنه هو الذي هد حصن يهود خيبر في صدر الإسلام، ولأن أتباعه وأشياعه المقموعين منذ مئات السنين والأعوام، قد انتفضوا وانتصروا على الظلام بعد أن رفضوا حكم الطاغية صدام، فأطاحوا به وحاكموه ومن ثم نفذوا فيه حكم الإعدام.
لكنني تظاهرت بعدم الفهم، وقلت لهم وما علاقة العقرب بسقوط الطاغية صدام، أليس من أطاح به هم الأميركان الذين جاءوا بناء على دعوة وجهت لهم من بعض الحكام، بعد أن انقلب عليهم إثر توقف حربه ضد جارته إيران، تلك الحرب التي أخذت من السنين ثماني، وقضت على الكثير من الأرواح والأعمار وأساءت للإنسان في كل مكان؟
فكان الجواب لافتا...! لقد كان العقرب أحد الأعوان، وكان يا ما كان تصله الهدايا العينية والمادية الباهظة الأثمان، وأن نسبة كبيرة من سمومه التي ينفثها الآن وأكاذيبه التي يوزعها كالشيطان، قد استقاها من عصابة البهتان، يوم كان يدرس في العراق بالمجان، وإن هذا الذي يقوم به، إن هو إلا دَيْن يؤدّيه إلى أصحاب الشأن، الذين أغدقوا عليه من كل شيء في زمن الهوان.
وحين اكتفيت من أخذ المعلومات عن العقرب، بدا لي أن أعود للثعبان، فوجدته تعبانا قد أثرت فيه حبوب الضغط والجنون وأدوية أمراض اللثة والأسنان، ورأيت أن لسانه لم يعد كما كان في غابر الأزمان، ووجدته مترهلا قد أثّر فيه الكبر وصار يلبس النظارات ؛ليتغلب على ضعف البصر، فاستسهل الاستعانة بالعقرب الجبانة فراح ينتظر الفرائس المسمومة من قبل العقرب المهمومة.
لقد قال لنفسه: إن العقرب ضئيل الجسم، وقد لا يستطيع أن يحمل هموم السموم التي يختزنها كلها، وهو بطبيعة الحال لا يستطيع أن يخرج إلى الناس في النهار، فلربما داس عليه أحدهم فدهسه من غير أن يشعر، لكن منظر الثعبان له رهبة مختلفة، وهو يبعث الهلع والخوف في القلوب حتى ولو كانت أنيابه قد سقطت من جرّاء الوهن والتقدم في السن.
ثم أن الثعبان يعرف بأن لديه بعض الأعوان الجاهزين من عازفي الطبل والمزمار، ويعلم بأن الحاوي يستطيع أن يحميه من غائلة الزمان، ويبقيه مع الإخوان بعيدا عن الحر ويوفر له الأمان من البرد، لذلك يستعرض عضلاته أمام الشاشة على رغم ما تعانيه عظامه من هشاشة، فقلت في نفسي يقولون إن الله سبحانه وتعالى (إذا أخذ ما وهب... أسقط ما وجب)... فكيف يأتيك الاستغراب والعجب؟!... لا عجب، لا عجب... مَنْ أَمِنَ العقوبةَ... أساء الأدب.
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1629 - الثلثاء 20 فبراير 2007م الموافق 02 صفر 1428هـ