بساطة أفكار الشيخ بيار المعطوفة على قدرة تنظيمية أعطت ذاك الزخم الشعبي لحزب الكتائب فاكتسح الشارع الماروني وشكل قوة ضغط من الداخل المسيحي على العائلات المارونية التقليدية. فالشيخ لم يكن يخجل بمسيحيته وكان يفاخر بانتمائه الماروني ولم يتردد في الدفاع عن الكنيسة المارونية ودورها النضالي في تحصين المسيحيين في المشرق وحمايتهم. كذلك كان الشيخ بيار أكثر واقعية في التعامل مع تعقيدات التضاريس الطائفية في لبنان. فهو مثلا لم يطمح إلى نشر فروع حزبه في المناطق المسلمة حتى لا يستفز مشاعر المسلمين لذلك اتجه نحو التحالف مع هيئات ومنظمات سياسية مسلمة تطرح شعارات العروبة وغيرها.
أفكار «الكتائب» ليست مسيحية ودعوته ليست مارونية وإنما لبنانية في المعنى المراد ترويجه على أساس الصيغة المشتركة ومشاركة المسلمين في بناء دولة مزدوجة التركيب ولكنها متوافقة على هوية واحدة. هذا لا يعني أن «الكتائب» لم تضم أو تمانع انتساب مسلمين إلى صفوفها. فهناك أقلية من الشرائح المسلمة انضوت في صفوف الكتائب ولكنها كانت ضعيفة التأثير وغير قادرة على الدفاع عن فكرة الحزب في مناطقها.
حزب الكتائب لبناني في تفكيره، ولكنه كان ولايزال تلك الحركة السياسية المسيحية في مجال نشاطها واتصالاتها وتأثيرها على الشارع. وهذه حال الأحزاب اللبنانية كلها تقريبا. فكل الدعوات التنظيمية الحديثة ترفض في مبادئها وفي مواثيقها وفي دساتيرها الأفكار الطائفية والمذهبية والعنصرية وغيرها من أشكال التمييز الاجتماعي ولكنها في واقع الأمر لم تستطع أن تخرج من الطوائف وتأثيرها السيكولوجي في تحريك الشارع وتجميعه ضد الشارع الآخر.
الفارق بين «الكتائب» وغيره من أحزاب أن الشيخ بيار كان قليل الطموح في مجال اختراق الطوائف. لذلك لجأ إلى صوغ خطاب يومي شعبوي يستطيع الشارع التفاعل معه وفهمه. ولهذا الأمر سجل حزب الكتائب نجاحات سياسية في الشارع المسيحي ونشر بقوة فكرة اللبنانية وما تعنيه الصيغة والمشاركة والتعاون مع الطرف الآخر لبناء دولة موحدة.
لاشك في أن هناك مجموعة عوامل ساعدت الشيخ بيار على نشر فروع حزبه في مختلف المناطق المسيحية. فهناك الظروف الدولية التي لعبت آنذاك دورها لمصلحة لبنان وتأكيد سيادته وتثبيت حدوده. وهناك الظروف العربية التي ساهمت في تأسيس دول قطرية وكيانات سياسية موزعة على خريطة التقسيم البريطانية والفرنسية. وأيضا هناك الظروف المحلية التي أنتجت تلك المنظمات والهيئات والأحزاب العربية المشابهة لـ «الكتائب» في الجانب المسلم (حزب النجادة مثلا).
كل هذه الظروف والعوامل الموضوعية والذاتية اجتمعت لتعزيز الفكرة اللبنانية وإضعاف الفكرة السورية. وبهدوء أخذت «اللبنانية» تنتقل من كونها فكرة مسيحية مضادة للمسلمين وطموحاتهم الوحدوية العربية إلى ايديولوجية مشتركة تقوم على مبادئ بسيطة تعتمد منظومة وفاقية تأسست وفق نظام المناصفة الطائفي والمحاصصة المذهبي.
حزب الكتائب لم يكن بعيدا عن فضاءات هذه النتيجة المشتركة، بل يعتبر الشيخ بيار أحد مؤسسيها وأبرز من عمل على ترويجها في تصريحاته اليومية البسيطة والمفهومة لدى عامة الشعب. ولذلك تحول الحزب إلى رقم سياسي قوي في المعادلة المسيحية وبات يشكل تلك القوة التنظيمية المنتشرة مناطقيا في مختلف الأقضية التي تتمتع بغالبية مارونية. وبسبب هذا النمو المسيحي - الماروني تعاظم دور الحزب لبنانيا وخصوصا بعد استقلال لبنان وخروج القوات الفرنسية من المشرق. فبات يشكل قوة انتخابية ترجح كفة هذه اللائحة عن تلك وأخذت العائلات المسيحية التقليدية تتنافس عليه لكسب أصواته في الدوائر الانتخابية.
تحولت «الكتائب» في أقل من عقدين من حزب هامشي ينشط في الريف والأحياء المسيحية ويكسب إلى صفوفه تلك الأسر البسيطة والمتواضعة والمعزولة، إلى قوة سياسية تولد القيادات النقابية وتسيطر على الاتحادات الطلابية والعمالية والبلديات وصولا إلى الندوة البرلمانية. وخلال فترة الخمسينات والستينات بدأ الحزب يشق طريقه للوصول إلى السلطة وخصوصا حين أخذ دور العائلات المسيحية التقليدية يتراجع ويتقلص نفوذها بسبب المنافسات الفوقية التي شقت التكتلات النيابية إلى كتلتين «وطنية» و «دستورية». فـ «الكتائب» آنذاك شكلت البديل الموضوعي لتفكك مواقع العائلات واقتسامها للسلطة اللبنانية ونجحت في تكوين هيئات منظمة ومنضبطة في الشارع المسيحي؛ ما أسعفها في تجنيد الأنصار ورفع قيادات شابة إلى مجلس النواب.
هذه القوة الجديدة تولدت من ضغطين: الأول كسب الأنصار في الشارع المسيحي. والثاني قيادة الشارع المسيحي في مواجهة الشارع المسلم كما كانت حاله خلال الحرب الأهلية الصغيرة في العام 1958. وبطبيعة الحال من يواجه الشارع المسلم خلال فترة التوتر والاقتتال الأهلي يستطيع أن يشكل تلك القوة الضامنة لحقوق المسيحيين خلال فترة السلم والمشاركة في توزيع الحصص والمناصب مع المسلمين. وهذا ما حصل خلال فترة الشهابية التي امتدت من العام 1958 إلى العام 1970 إذ لعبت «الكتائب» دور القائد في الشارع المسيحي (الماروني تحديدا) ودور المشارك للطرف المسلم في تأليف الوزارات وتشكيل الكتل البرلمانية.
شكلت هذه المكانة الخاصة سلسلة عداوات لـ «الكتائب» في الجانبين المسيحي (الماروني) والمسلم في طوائفه الثلاث. فالعائلات المسيحية التقليدية التي كانت تتحكم في المفاتيح الانتخابية ودوائر السلطة وأجهزتها وجدت في «الكتائب» ذاك المنافس الحديث في تولي مسئوليات الحصص المفروزة للطوائف المسيحية. والطوائف المسلمة وجدت في «الكتائب» قوة طليعية مضادة منظمة ومسلحة (ميليشيات) وتملك إمكانات وطاقات وكادرات متعلمة ومنتشرة في معظم المناطق المسيحية.
وظهر هذا الأمر خلال انفجار الحروب الأهلية - الإقليمية في العام 1975 إذ شكل حزب الكتائب قوة سياسية وتنظيمية ومسلحة وأخذ يقود الشارع لمواجهة الحركة اليسارية اللبنانية المتحالفة مع الفصائل الفلسطينية. وأثبتت «الكتائب» خلال تلك الفترة قدرات جعلتها تسيطر على الشارع المسيحي بالتعاون مع قوى أخرى تمثلت في تشكيل سياسي أطلق عليه «الجبهة اللبنانية» وتشكيل عسكري أطلق عليه «القوات اللبنانية».
استفادت «الكتائب» من سيكولوجية الطوائف وتعاملت معها بواقعية منذ تأسيس الحزب؛ ما أدى إلى اكتساحه الشارع المسيحي بسرعة وسهولة. وأسفر هذا النمو الشارعي عن نتائج سياسية خطيرة في الجانبين المسيحي والمسلم. ففي الجانب الأول دخل الحزب في صدامات دموية مع منافسيه أدت إلى وقوع مجازر ضد مواقع وعائلات مارونية (آل فرنجية في زغرتا مثلا) كذلك دخل في مواجهات مسلحة مع مؤسسات الدولة والجيش اللبناني. وفي الجانب الثاني بات حزب الكتائب وفروعه وملحقاته وهيئاته يشكل قوة موازية للتكتل المضاد في الشارع المسلم المتحالف مع الفلسطينيين.
أدى التوازن السلبي إلى توليد متغيرات كثيرة دولية وإقليمية وعربية وسورية. فبدأت أولا بدخول الجيش السوري لبنان في العام 1976 وانتهت ثانيا باجتياح «إسرائيل» لبنان في العام 1982. وفي ظل هذه الفضاءات المتوترة أهليا انتخب بشير بيار الجميل رئيسا للجمهورية وقتل في حادث تفجير قبل تسلمه مقاليد الحكم... لينتخب بعده شقيقه الكبير أمين رئيسا للبلاد إلى العام 1988.
كان الشيخ بيار على قيد الحياة (توفي في العام 1984) حين انتخب ابنه الصغير وقتل ثم حين انتخب ابنه الكبير الذي لايزال حتى الآن يترأس فخريا حزب الكتائب. فالشيخ بيار الجد رحل بعد أن أسس عائلة سياسية مهمة لعبت دورا في صوغ الكثير من المفاهيم اللبنانية المتداولة اليوم في هذا البلد الصغير. وحين اغتيل حفيده بيار أمين الجميل قال قادة الكتائب إن الجريمة أصابت العائلة والحزب معا. فالأب كان بدأ يخلي الساحة للابن للنهوض بالعائلة بعد تلك الضربات القاتلة التي سددت ضدها فوجد نفسه أمام العاصفة من جديد. والحزب كان يستعد لانطلاقة جديدة تعيد تأسيس منهجية متصالحة مع المسلمين تمهيدا لترشيح بيار الحفيد لرئاسة الجمهورية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1629 - الثلثاء 20 فبراير 2007م الموافق 02 صفر 1428هـ