العدد 1627 - الأحد 18 فبراير 2007م الموافق 30 محرم 1428هـ

الحزب السوري القومي... وسيكولوجية الطوائف(2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

فكرة سعادة عن سورية الكبرى كانت قوية آنذاك في الوسط المسلم (السنة والشيعة والدروز) لذلك تعاطفت معه الكثير من الشرائح المسلمة وانتشرت خلايا الحزب في مناطق ذات غالبية سنية وشيعية ودرزية إضافة إلى الروم الأرثوذكس. طائفة الروم المسيحية بيزنطية سورية قبل الفتح العربي الإسلامي وكانت كنسيا منتشرة في بلاد الشام (سورية ولبنان والأردن وفلسطين) ومصلحتها تقضي بعدم تفكيك البنية التنظيمية للطائفة وتوزيعها على مؤسسات منفصلة كيانيا. في المقابل يعتبر الموارنة طائفة مسيحية (كاثوليكية) لبنانية بالكامل تقريبا. ولذلك مالت مصلحة الموارنة إلى التمسك بهوية لبنان وحدوده الجغرافية من دون تعديل أو توسيع أو مد إلى خارج الحدود.

استمر حال الحزب السوري القومي ينمو في إطار الصراع مع الانتداب الفرنسي، والتنافس مع الكتائب اللبنانية على كسب الشارع المسيحي، والتزاحم مع حزب النجادة (السني) صاحب نظرية القومية العربية على كسب الشارع المسلم. وبسبب هذا الاصطراع الحزبي اضطر سعادة إلى شن حملات سياسية ضد الحزبين اللبناني والعربي وكتب في هذا الصدد عشرات المقالات النقدية ضد الكيانية اللبنانية (الانعزالية) والقومية العربية (الانفلاشية). وكانت أقلام الكتائب والنجادة ترد على سعادة وتتهمه بالعداء للمسيحية (لبنان) والعروبة (الإسلام) لمصلحة علمانية مبهمة وهوية غامضة. ولم تتردد تلك الأقلام في اتهامه بالتعامل مع النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا بهدف تشكيل «قومية ثالثة» تقوم على نظرية توحيد الأعراق والأقليات في منطقة تزدهر فيها مجموعات دينية تتعارض مع الغالبية المسلمة عربيا والغالبية المسيحية لبنانيا.

في مطلع الأربعينات بدأت الفكرة اللبنانية تترسخ كيانيا وأخذت تشكل هوية جامعة جديدة للطبقة السياسية الحاكمة التي توزعت بين كتلتين «الوطنية» و»الدستورية»، ولكنها لم تتوصل بعد إلى التحول إلى فكرة مقبولة لدى المسلمين وتحديدا الشارع السني (العربي) الذي كان يتمسك بالوحدة القومية العربية. وبسبب هذا الانقسام السياسي الطائفي والمذهبي والمناطقي بين غالبيتين شعبيتين (مسيحية لبنانية وإسلامية عربية) تراجعت الفكرة السورية وأخذت بالضمور ولم تعد مقبولة إلا في تلك الأوساط المثقفة وبعض الشرائح العلمانية والأكاديمية.

في ظل هذا الجو المضطرب أهليا عانى سعادة من مأزق ايديولوجي. فالشارع المسلم يميل إلى العروبة والشارع المسيحي يميل إلى اللبنانية بينما الحزب السوري يفتقد إلى شارع يحمل هويته القومية ويدافع عنها. وزادت أزمة الحزب حين اكتشف سعادة بعد عودته من المهجر أن هناك كتلة سياسية في حزبه تميل إلى الكيان اللبناني وإلى جانبها كتلة أخرى تميل إلى الليبرالية والعروبة فقرر طردهما دفاعا عن ايديولوجية أخذت الظروف الموضوعية تتطور سياسيا ضدها.

في هذه الفضاءات وقعت نكبة فلسطين وتأسست «دولة يهودية» في العام 1948 وأعقبها انقلاب حسني الزعيم في سورية احتجاجا على التخاذل والخيانة القومية. اتجه سعادة إلى دمشق واتفق مع الزعيم على إعلان ثورة في لبنان تجدد تلك الروابط التاريخية والجغرافية. وانخدع سعادة بوعود الزعيم حين اكتشف أنه غدر به وتفاهم مع رياض الصلح على إفشاله وتسليمه في حال فراره. وهكذا حصل. أعلنت الثورة وفشلت ولجأ سعادة إلى دمشق وسلمه الزعيم إلى السلطات اللبنانية ونفذ به حكم الإعدام في العام 1949.

لاحقا ثأر الحزب واغتال الصلح، ثم ثأر من الزعيم وغيره إلى أن اصطدم مع قوة حزب البعث الصاعدة في سورية في الخمسينات فأقدم على اغتيال المالكي وكانت نهاية عهد الحزب القومي في دمشق. وهكذا عاد الحزب السوري إلى قواعده اللبنانية وكاد أن يتحول إلى حزب لبناني (شبه قومي وشبه يساري) تائه بين مجموعات ايديولوجية صغيرة تقطن معظمها في الجبل والأطراف وتتشكل في معظمها من الأرثوذكس والشيعة والدروز. إلا أن دخول الجيش السوري إلى لبنان في العام 1976 بغطاء دولي/ عربي أنعش فكرة الحزب «القومية» إذ وجد في هذا الدخول مناسبة سياسية تعزز فكرة «سورية الكبرى» التي نادى بها سعادة وأعدم من أجلها.

على قاعدة هذا التفكير الذابل والضامر شهدت الساحة اللبنانية بداية عودة لفكرة افتقرت إلى سياسة تعطيها الصدقية العملية بعد أن وصلت النظرية إلى حال من الخواء. وهكذا تجدد العناق الميداني بين ايديولوجية تبحث عن دولة مفقودة ونظام يبحث عن ايديولوجية معهودة. ولهذا يعتبر الحزب القومي الأكثر تطرفا في دفاعه عن سورية والوجود السوري سابقا وعودة الجيش السوري إلى لبنان بعد خروجه منه. فهذا الدفاع يعوض في السياسة ذاك الفراغ الايديولوجي الذي أصيبت به النظرية. فالحزب القومي اكتسب في مرحلة التأسيس الشارع السني ثم خسره بعد نهوض فكرة القومية العربية في لبنان. والحزب أيضا خسر الموارنة وغالبية الشارع المسيحي بعد صعود حزب الكتائب وترسخ الفكرة اللبنانية واستقرارها في هيئة كيان سياسي. والحزب خسر غالبية الدروز بعد صعود زعامة كمال جنبلاط وحزبه التقدمي الاشتراكي. وأخيرا بدأ الحزب يخسر بقايا جمهوره الشيعي في الجنوب والبقاع بعد صعود مشروع الإمام المغيّب موسى الصدر. ولم يبقَ له سوى بقايا مجموعات ايديولوجية صغيرة محاصرة طائفيا ومذهبيا ومناطقيا يضاف إليها تلك الخصوصية التاريخية التي تربطه ببعض أجنحة الطائفة الأرثوذكسية في المتن الشمالي والكورة. لذلك حين حصلت الحوادث الأمنية في القضائين اتهم الحزب بها.

هذه هي السياسة في لبنان وشروطها. فالأحزاب حتى العلمانية منها تخضع في النهاية للسوق وآلياتها. وآليات الواقع أقوى من الأفكار والايديولوجيات. وما حصل مع الحزب الشيوعي (الملحد) يحصل أيضا مع حزب قومي (علماني). فالواقع المنقسم أهليا يساهم في مساعدة الطوائف على إنتاج سياسة. وحين تبدأ الطوائف في طبخ السياسة تتشكل تلك التشنجات النفسية التي ترفد سيكولوجيا القوى الحزبية الطائفية بالأنصار وتدفع بالرفاق إلى التقوقع والانكماش والانزواء... أو الهروب إلى الأجهزة بصفتها تشكل ذاك التعويض السياسي عن فكرة مهزومة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1627 - الأحد 18 فبراير 2007م الموافق 30 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً