العدد 1626 - السبت 17 فبراير 2007م الموافق 29 محرم 1428هـ

كيف نقرأ «حرب» بعد التفكيك؟(1)

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

اليوم(الأحد) وبعد عديد الزيارات تستقبل البحرين مجددا المفكر اللبناني المعولم «علي حرب» المثير للجدل كما الاستفزاز لذاكرتنا العربية. هو الصوت الخافت المجلل الذي يستوجب الإنصات إليه بتأنٍ حتى وإن اختلفنا معه. يصف البعض كتاباته بالتكرار والاجترار الذي يدور حول ذات الإطرواحات والأفكار التي لا تتجاوز في فعلها حدود تنظيراتها في المنتديات والكتابات الصحافية بالرغم من غزارة إنتاجه، آخرين يرون فيها حجرا كان لابدّ من إلقائه بقوة في المياه الآسنة لواقعنا المربك الذي يعيد فيه الإنسان البحث عن هويته لإيجاد المخارج لأزماته.

في الهوية

«علي حرب»، شرح بعمق مبسط في كتابه «خطاب الهوية»، مفهومه «للهوية» ودلالاتها فكتب مفصلا: «أنني أتغير وأختلف عن ذاتي وفكري باستمرار، ذلك ما يبرر استمراري في البحث والكتابة، الهوية ليست ماهية ثابتة بقدر ما هي مغايرة للشيء، ونسبة شيء إلى شيء، والغير عنصر في تحديد هويتي وتعيين ذاتي، وتغيرها يأتي بحسب الصلات والعلاقات مع الغير، والإنسان له وجوه كثيرة، وهويته ما هي إلا وجوهه المختلفة وأقنعته المتبدلة، والوعي بالذات أراه يمر عبر الغير والآخر، إنه حاضرا في الذات بقدر ما هو غائب، وقريب بقدر ما هو بعيد، والغير هو الوجه الباطن لنا، وهو ما كناه، وما يمكن أن نكون، والاختلاف هو الأصل في يقظة الوعي وتحديد الفكر، وتطور الحياة، هو الذي يولد المعنى، ويخلق الدلالة، فلو لم تتميز الأشياء بعضها عن بعض لما كان ثمة إمكان لمعرفة شيء، ولو لم تتبدل الأشياء وتتمايز لما كان ثمة تجدد وتطور»! ِلمَ لا؟ والمفكر كما ثبت من قراءاتنا لأهم نتاجه الفكري، لا مطلقات عنده ولا ثبات على حال أو موقف ؛لأنه لا يشاهد الأشياء والأفكار من حوله جامدة في زمنها ومكانها إنما متفاعلة في صيرورتها وحراكها وعلاقاتها وعناصرها، ما جعله يقول: «إن الواقع يصدمنا إلى حد الذهول، ولا يكف عن مفاجأتنا من حين لآخر بما لم نكن نتوقعه من الزلازل والانهيارات والكوارث على غير صعيد وفي غير مجال»!

العالم ومأزقه

بعيد أحداث 11 سبتمبر/ ايلول قرأ المشهد الكوني عبر «كتاب العالم ومأزقه، نحو عقل تداولي»، في محاولة منه لتسويغ لغة التداول التي تفضي بنا إلى المجتمع التدوالى، الذي يتأمل فيه طريقا للتواصل والتسوية مع الآخر، ومن خلال تشخيصه للواقع رأي أن التعابير تدلل على المأزق الوجودي، وإن المشهد الإرهابي مركب ومضاعف بسبب هشاشة التفاسير، فركز على الكشف عن منابع العنف في مجتمعاتنا وآلياته التي تستقي أوضاعها من الألوهة، والبطولة والأصولية والقداسة والنخبوية الرسولية وأحادية التفكير واستبعاد الرأي المختلف والطوباوية وهشاشة المفاهيم والفكر النموذجي والعقل الجمعي الذي يعتمد على ثنائية الراعي والقطيع أو الزعيم والشعب، فضلا عن أحادية التفكير والنزعة النخبوية والعقليات الرجعية التي تعمل بمثابة أفخاخ تلغم الحريات، ذاك يمثل بمجمله نقيض للعقل الديمقراطي!

ومجتمعاتنا حينما فكك «حرب» عناصرها تعيش مفارقة تتمثل في التحولات الهائلة والمتسارعة التي تأخذ مظاهرها في الواقع الافتراضي والإنتاج الالكتروني وثورة المعلومات ومنظومة الاتصالات والهوية المتعددة العابرة للقارات والاقتصاد المعرفي والخيال الميديائي واللغة الرقمية المتغيرة والعابرة والذكية ذات الطاقة الإعلامية الهائلة في الوقت الذي يقابلها أزمات مستعصية، اقترح تجاوزها أو التقليل منها بالتخلص من لغة الندب والتحرر من منطق الإدانة والخروج من عقلية القصور وتغذية العناوين القديمة وتجاوز المنهج الأحادي وكسر الثنائيات الخانقة والتخلي عن منطق المطابقات ووهم الحلول القصوى والنرجسية العقيمة والخادعة مناديا بتعويم الأفكار، داعيا إلى «مجتمع تداولي» وسطي، لا نخبوي يفكر فيه الواحد عن الآخر، مجتمع يعمل فيه بمنطق المساومة والتسوية، تعددي لا أحادي يعترف بتعدد المرجعيات والسلطات والفاعليات، كما يعترف -أي المجتمع- بأن كينونة الإنسان مركبة ومتعددة الوجوه والأصوات، مجتمع تتغير فيه القيم والقوانين بقدر ما يعاد فيه تشكيل منظومات الاتصالات وشبكات الانتماء!

لغة التفكيك... مشاركة في الخلق

ولأن ما سبق من وجهة نظره مرهون بإنشاء علاقات مغايرة مع الحقيقة تشحن بمعان جديدة تجعلها أقل تجريدا وتعاليا ووحدانية، بمعنى أكثر تداولية وإجرائية وراهنية، من خلال فتحها على مفردات الخلق والابتكار أو التجاوز والتركيب أو الصرف والتحويل أو الإدارة والتسيير، فقد اقترح علينا في كتابه «هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، 2005»، ألا نقرأ لمجرد المعرفة، باسم مبدأ غائب، ما هو كائن أو مخلوق، على سبيل المماهاة، أو الصدوع بالأمر، وإنما للمشاركة والانخراط في لعبة الخلق، عبر اختراع الأسماء أو اجتراح الدلالات، أو بهتك البداهات وكشف المحجوبات، أو بخرق الحدود واجتياز العقبات، عبورا نحو عوالم جديدة تنشأ معها علاقات مغايرة بين الأشياء، بقدر ما تنتج وقائع جديدة، مؤكدا أن رهان القراءة، هو أن يقرأ الواحد، لكي يخلق ويبتكر، فيما هو يكتب ويفكر، لكي يتغير ويغير، عبر ما تنسج منه القراءة من سلاسل الإحالة وشبكات الاستعارة أو مجازات الخيال ومركبات الفهم، ذلك لأن الواقع أصبح موضوع القراءة بقدر ما يُعامل كنص ويقرأ بصفته مُثقلا بالمعاني أو محمَّلا بالدلالات، مما يجعله محتاجا إلى من يتدبر معناه بالتفسير والتأويل.

لذا وذاك، ركز على مفاعيل «النقد التفكيكي» لأنه يوضح أن ما يظن بأنه بديهي أو طبيعي أو مطلق أو جوهري أو مركزي أو ثابت أو معقول أو مشروع، ليس هو كذلك، أي يتكشف، بعد التشريح والتحليل، عما هو مبني وتاريخي وثقافي وعَرَضي ونسبي ومتحول وزائل، وعليه فالقراءة في المعطى لا تقرأ الشيء كما يقدم نفسه أو يُعلن عن نفسه، إنما تقرأه دوما كنظام أو قاعدة أو بناء أو ثقافة أو صناعة، هذا ما جعله أن لا يفاجأ بأن الاستبداد قد يأتي من رواء عشق الحرية، أو أن من يدعو إلى المساواة لا يقدر إلا على إنتاج التفاضل والتمايز، أو إن التوجه نحو المستقبل لكي نصدم بالماضي أمامنا أو نحارب الفاشية لكي نمارسها على نحو مضاعف بعنفنا الرمزي وإرهابنا الفكري، أو نعلن العداء للإمبريالية والسوق الوحشية فيما نسعى جاهدين إلى نشر أسمائنا ونصوصنا وبضائعنا الرمزية، أو ننصب أنفسنا دعاة استنارة فيما ننتقل من ممارسة معتمة إلى أخرى، قد نشجب فيها أعمال العنف الفاحش فيما هو ثمرة عقولنا وتعاليمنا وفتاوانا، أو نصدر الأمر فيما نعلن الامتثال والطاعة.

إلى ذلك، اكتشف في سياق قراءاته التفكيكية وجود فجوات ومفارقات بين القول ومراده أو بين الفعل وفضائحه أو بين الحدث وتداعياته، وإن أي قراءة خصبة في نص من النصوص لعلم من أعلام الفكر، تشكل بمفاعيلها الخارقة والتحويلية، إعادة خلق للمقروء والمنطوق، بابتكار صورة جديدة لمؤلفه، أو بتشكل بؤر جديدة للمعنى، تتغير معها العلاقات بين الأسماء والأشياء. في الإطار، بين أن مهمة صناعة الحداثة هو ممارسة العقلانية بقراءة النتاج العقلي القديم قراءة حديثة ومعاصرة، تحدد بها مفاهيم العقل والتنوير والتقدم، لذ لا جدوى عنده من تصنيف الفلاسفة القدامى وحشرهم في خانات إيديولوجية بين عقلاني وعرفاني أو تنويري وظلامي أو تقدمي ورجعي، كما يفعل أصحاب القراءات النضالية للنصوص. فابن رشد والغزالي كما الفارابي وابن سينا أو ابن تيمية وابن خلدون، كانوا على تعارض اتجاهاتهم واختلاف مدارسهم، خلاقين مبتكرين، كل في مجال اختصاصه وعلى طريقته، وما ينقصنا الآن بحسب ما يفسر هو ممارسة التفكير بصورة حية وخصبة، فعالة وراهنة، بقراءة نصوصهم كرؤوس أموال فكرية تحتاج إلى من يصرفها، بالعمل عليها، لتحويلها على عملة معرفية قابلة للتداول والانتشار على ساحة الفكر العربي والعالمي، ما حذا به للتعامل مع نصوص «ابن رشد» بصورة نقدية توليدية تحويلية متحررة من القراءة الإيديولوجية السائدة بأشكالها الأربعة: التبجيلة والعدائية والإسقاطية والتبسيطية، ذلك ما يجعلنا بحسب قوله، نبلغ رشدنا الفلسفي بقدر ما نمارس استقلاليتنا الفكرية عن «ابن رشد»، ونجدد المعرفة بنصوصه بقدر ما نغني عالم المعرفة، ونجعله راهنا بقدر ما نقرأه قراءة مثمرة وراهنة نتحرر بها من أوهامنا عنه، كما تتمثل في القراءات الأيديولوجية ذات الطابع النضالي أو التبشيري.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 1626 - السبت 17 فبراير 2007م الموافق 29 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً