أعلن مئة كادر من الحزب الشيوعي اللبناني خروجهم على قيادة الحزب وتشكيلهم «حركة يسارية جديدة» احتجاجا على التحالف مع قوى «8 آذار» المؤيدة للنظام السوري. هذا الخروج التنظيمي على قيادة الحزب الشيوعي ليس الأول من نوعه، فهو دائما كان يشهد انشقاقات وانقسامات لأسباب تتعلق بالبرنامج أو بالتحليل أو بالمواقف. وأحيانا كانت الخلافات تحصل لعوامل دولية أو إقليمية أو لسياسات تقليدية متبعة تتصل بالقومية العربية أو الموقف السلبي من الإسلام أو التباس مواقفه بشأن القضية الفلسطينية.
تاريخ الحزب تاريخ انشقاقات واختلافات ناتجة في معظمها عن فضاءات دولية أو متغيرات إقليمية أو تأثيرات ايديولوجية «يسارية جديدة» جاءت إليه من أوروبا. في الستينات مثلا انقسم الحزب وخرجت مجموعة «ستالينية» اتهمت القيادة بالانحراف عن الخط الصحيح. وفي مطلع السبعينات خرجت مجموعة «يسارية» جديدة تأثرت بمناخات «الثورة الطالبية» في فرنسا واتهمت القيادة بالجمود النظري والبلادة الفكرية.
وفي الثمانينات تعرض الحزب إلى اهتزازات ايديولوجية بسبب اعتراض مجموعات من قاعدته المسيحية على تحالف القيادة مع الفصائل الفلسطينية ودخولها طرفا في الحرب الأهلية الإقليمية. وفي التسعينات حصلت انقلابات داخلية في قواعد الحزب حين عصفت المتغيرات الدولية بالاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي. وحين انهارت المنظومة الاشتراكية السوفياتية وتفكك معسكرها في أوروبا الشرقية ظهرت تيارات تطالب بحل الحزب وتغيير اسمه وتبني ذاك النهج «الديمقراطي اليساري» المعتدل وإسقاط تلك الأفكار «الديكتاتورية» من برنامجه وعقيدته.
استقرت انقسامات التسعينات على مجموعة مواقع ومراكز قوى وانسحبت فئات وأعلنت عن تأسيسها «حركة اليسار الديمقراطي» بينما استمر الحزب على منهجه السابق مع تعديلات جزئية في برنامجه السياسي وايديولوجيته الماركسية. فالحزب وجد نفسه في وضع صعب وبات عليه بذل المزيد من الجهود لإقناع قواعده والجيل الشاب أن «الاشتراكية هي الحل» في وقت تغادر أوروبا الشرقية ذاك النظام بعد نحو نصف قرن من التجارب السياسية الفاشلة.
الآن وبعد مضي أكثر من عقد على الانقسامات الايديولوجية الأخيرة تعلن مجموعة عن انسحابها من الحزب بسبب تحالفه مع قوى « 8 آذار». والانشقاق الأخير يختلف في تكوينه وبنيته ودوافعه عن كل تلك الحركات والاحتجاجات السابقة. الانقسامات السابقة حصلت لأسباب ايديولوجية وثقافية وسياسية في معظمها. فهناك من تأثر بفكر ماوتسي تونغ (الصين) ورأى في اجتهاداته النظرية محاولة لتقريب الايديولوجية الماركسية (الأوروبية) مع ظروف آسيا وبيئة العالم الثالث الريفية. وهناك من تأثر بفكر هوشي منه (فيتنام) الذي نجح في تكييف نظرية الطبقة العاملة (الصناعية الأوروبية) مع واقع فلاحي (زراعي) يعاني من الاضطهاد الاجتماعي والاستعمار الامبريالي في نسخته الفرنسية الأولى ثم في نسخته الأميركية الثانية. وشكلت أفكار هوشي منه ذاك الجسر العملي لعبور الماركسية في نسختها الآسيوية من قيود ايديولوجية أوروبية (طبقية) إلى ساحات العالم الثالث وحركات التحرر الوطني والاستقلال السياسي من خلال الكفاح ضد الامبريالية. وهناك أيضا من تأثر بفكر فيديل كاسترو والثورة الكوبية وتوابعها وملحقاتها في أميركا اللاتينية. وشكل فكر ارنستوتشي غيفارا ونظريته السياسية عن «البؤرة الثورية» والكفاح المسلح انطلاقا من الريف إلى المدينة مناخات ايديولوجية زعزعت أركان الفكر الماركسي الكلاسيكي الذي كان يراهن على الثورة البروليتارية في الدول الصناعية ويرى أنها تشكل مفتاح التغيير العالمي.
كل هذه الإضافات الايديولوجية التي رفدت من المفكرين في العالم الثالث شكلت تقليديا نقاط توتر وساهمت في تبرير الانقسامات والانشقاقات في الأحزاب الشيوعية العربية. حتى أفكار روجيه غارودي (الماركسي سابقا والإسلامي لاحقا) لعبت دورها في تشكيل صياغات جديدة للعمل السياسي. فغارودي قام في مطلع سبعينات القرن الماضي بوضع نظرية «الكتلة التاريخية» انطلاقا من إعادة نقده لرأسمالية القرن العشرين. ورأى غارودي أن ماركس انتقد رأسمالية القرن التاسع عشر ووضع تصوراته وبرنامجه الاشتراكي البديل بناء على رأسمالية قديمة، ولكن الرأسمالية تطورت وتحدثت برأي غارودي ولذلك اقترح إنتاج ماركسية جديدة تتناسب مع التعديلات التاريخية التي طرأت على البنية الصناعية الأوروبية. وبناء على هذه القراءة ابتكر غارودي نظرية «الكتلة التاريخية» لتكون ذاك البديل السياسي عن نظرية «الطبقة العاملة».
متغيرات وتحولات
هناك الكثير من الأفكار الماركسية تشكلت سياسيا بسبب تأثيرات الفضاءات الدولية وتلك العواصف الثورية التي هبت في العالم الثالث ضد الامبريالية أو الولايات المتحدة. فخلال الثورة الجزائرية مثلا ظهرت كتابات فرانز فانون عن «البروليتاريا الرثة» أو سكان ضواحي المدن. وخلال الثورة الطالبية في فرنسا ظهرت كتابات هربرت ماركوز (الماركسي الأميركي) عن «الإنسان ذو البعد الواحد» والقلعة الأميركية المغلقة، ورأى ماركوز في «الأقليات الملونة» قوة تغيير من الداخل. وخلال تلك الفترة ظهرت أفكار «القوة السوداء» في الولايات المتحدة التي صاغها مالكوم أكس في كتاباته الأولى قبل أن يتحول إلى الإسلام.
كل هذه الأفكار أحدثت تحولات في الأحزاب الشيوعية وتركت آثارها السياسية وبررت ايديولوجيا أسباب الانشقاقات والانقسامات على القيادات المتحجرة التي ترفض تطويع النظرية مع الواقع وتحولاته التاريخية.
في ضوء هذه المتغيرات الدولية والعواصف الإقليمية والأهلية لم يكن وضع الحزب الشيوعي اللبناني أفضل من غيره. فهذا الحزب بدأ نشاطه من نواة خلية في نقابة مزارعي التبغ وأخذت شبكته تنتشر وتمتد انطلاقا من المتن الشمالي وكسروان في العام 1924. وحمل الحزب بداية اسم «حزب الشعب» وغلبت على أفكاره تلك المطالب النقابية والبرامج العمالية البسيطة متأثرا بالمناخ الايديولوجي الذي أنتجته الثورة البلشفية بقيادة لينين في روسيا في العام 1917. وسرعان ما اتسع نطاق نشاط الحزب وتطورت أفكاره وبدل اسمه إلى «الحزب الشيوعي السوري - اللبناني» في اعتبار أن البلدين دولة واحدة. وبعدها انشق الحزب على نفسه بعد اتفاق الفصل الجمركي بين سورية ولبنان ليصبح «الحزب الشيوعي اللبناني».
بدأ الحزب أنشطته الأولى في البيئة المسيحية وكانت قيادته وقواعده تتشكل في معظمها من مسيحيين وموارنة وبعض النخب من المسلمين السنة والشيعة والدروز. ومع الأيام تطورت الظروف واختلفت البيئة وبدأ يشهد ذاك القبول من الأوساط المسلمة وخصوصا بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967.
فالحزب آنذاك انفتح نسبيا على القضايا القومية والوطنية وأخذ يطالب بالوحدة العربية وتحرير فلسطين. وهذا ما أدى إلى انفتاح الشارع المسلم عليه والتعاون معه ثم التحالف في فترة السبعينات وخصوصا حين اضطرب البلد أهليا ولم تعد المطالب النقابية مطروحة بسبب انهيار الدولة وتفكك الاتحاد العمالي وتوزعه على المناطق طائفيا.
أدى هذا المتغير إلى تراجع قوة الحزب في الوسط المسيحي ونمو قواعده وتكاثرها في الشارع المسلم. واستمر هذا التحول إلى درجة أن أحد كبار المفكرين الماركسيين أعلن احتجاجه وغادر بيروت الغربية (المسلمة) إلى بيروت الشرقية (المسيحية). وهناك من الأشرفية أعلن نسيب نمر (ماركسي - ماوي) عن قناعاته الجديدة ودعا في مؤتمر صحافي إلى تأسيس حزب «الاتحاد المسيحي - الاشتراكي» ردا على ما وصفه بالاتحاد «المسلم - الاشتراكي».
حركة نسيب نمر كانت في منتهى الخطورة لأنها للمرة الأولى تنقل الانقسامات الشيوعية من طورها الايديولوجي أو السياسي إلى طورها الأهلي (الطائفي والمذهبي والمناطقي). وشكلت هذه الحركة إشارة واضحة إلى قوة الواقع وقدرته على كسر الايديولوجية وتطويعها ثم جرجرتها من التجريد النظري إلى أرض الناس وانقساماتهم الموروثة. وبهذا المعنى أعطى نمر في حركته تلك ما يشبه النموذج البديل لأزمة الماركسية في المنطقة العربية ولبنان. فالشيوعية على المستوى النظري المجرد ايديولوجية ملحدة لا تؤمن بالصانع ولا بالدين ولكنها على مستوى الممارسة انكسرت على الأرض وتشرذمت إلى مدارس متفرقة واجتهادات مختلفة وصولا إلى تعديل قوانين المعادلة وإسقاطها على انقسامات أهلية.
ما حصل مع نمر (الاشتراكي - المسيحي) في نهاية ثمانينات القرن الماضي تكرر الآن مع تلك المجموعات والكادرات التي أعلنت انسحابها من «الحزب الشيوعي اللبناني» بسبب تحالفه مع قوى «8 آذار». الانقسام ليس جديدا من نوعه في اعتبار أن الحزب تعرض في كل محطاته إلى متغيرات دولية وإقليمية عصفت بقواعده وقياداته ودفعت أجنحته المتخاصمة إلى انشقاقات ايديولوجية مضادة. الجديد في الانقسام الأخير أنه انطلق من أسباب أهلية منقسمة واقعيا (طائفية ومذهبية ومناطقية) لا لعوامل ايديولوجية نظرية. والمجموعات المنشقة أخيرا احتجاجا على «8 آذار» تشكلت غالبيتها من المسيحيين والسنة والدروز وسكان الجبل وهذا يعني أن آليات الواقع أقوى من قوانين النظرية، وأن سيكولوجية الطوائف والمذاهب والمناطق لاتزال تؤثر وتفعل فعلها حتى ضد ايديولوجيات تعتبر «الدين أفيون الشعوب».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1625 - الجمعة 16 فبراير 2007م الموافق 28 محرم 1428هـ